الفضول المعرفي.. كيف تنميه؟
مقدمة
الفضول هو الذي أخرج آدم عليه السلام من الجنة، وهو الذي دفع إبراهيم عليه السلام إلى الانتقال من “رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ” إلى “رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ”، وهو الذي أخرج موسى من قومه إذ قال: “لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا”، فضوله المعرفي وحبه للعلم أخرجاه من قومه بحثا عن الخَضِر عليه السلام، الذي أخبر اللهُ سبحانه أنه يمتلك علما يفوق علم موسى عليه السلام.
إن الفضول فطرة لدى كل إنسان، وهو بمثابة شعلة، فإما أن يحافظ عليها، ويطرق أبواب العلم من خلالها، وإما أن تنطفئ ويعيش كأي إنسان آخر.
الفضول وتحسين الذاكرة
كشفت دراسة أجراها ماتياس جروبر من جامعة كارديف بالمملكة المتحدة، أن الفضول يبدأ “عندما يواجه المرء أسئلة مشوبة بالغموض أو اللايقين، حينها يشعر بأن ثمة فجوة بين معلوماته أخذت تتوسع تدريجيا. الأمر الذي ينشط منطقة “الحُصين” في الدماغ الخاصة بالذاكرة والتعلم.” وتفاعل المرء مع تلك الأسئلة هو الخطوة الأهم. “إذا قيَّم الدماغ أن المشاعر المرتبطة بفضولنا هي مشاعر إيجابية، فإنه يتعامل مع الفضول مثل الكثير من الأنشطة الممتعة التي تُحفِّز إطلاق الدوبامين. وساعتها يُعزِّز الفضول من قدرة الناس على التعلُّم وحفظ المعلومات الجديدة” [1] وكشفت الدراسة أيضا أن الدماغ يميز المعلومات التي نتعرض لها أثناء عملية الفضول.
لا يمكن أن تكون عالما دون أن تكون فضوليا، وهذا هو القاسم المشترك بين جميع العلماء والمكتشفين على مر العصور
الفضول طريق العلم
الاكتشافات التي تسهل حياتنا اليوم، كانت في الماضي مجموعة من الأسئلة، أشعلها الفضول لدى أحدهم، فبحث وألف واخترع ليصل إلى ما نراه اليوم. لا يمكن أن تكون عالما دون أن تكون فضوليا، وهذا هو القاسم المشترك بين جميع العلماء والمكتشفين على مر العصور، لولا فضول نيوتن عندما رأى تفاحة تسقط من شجرة ربما ما عرفنا قانون الجاذبية، ولولا فضول مؤسس “علم الضوء” الحسن ابن الهيثم رحمه الله حول الضوء والبصريات ربما ما عرفنا الكثير عن سرعة الضوء والكاميرات التي نستعملها الآن، وكذلك الكثير من القصص حول فضول العلماء والمكتشفين الذين ساقهم فضولهم إلى اكتشافات خلدهم التاريخ لأجلها، ولا زلنا نستفيد منها حتى اليوم.
محددات الفضول
يختلف الفضول من شخص لآخر، فما يثير فضولي قد لا يثير فضولك، هناك محددات رئيسية تساهم في تحديد الأشياء التي تحفز الإنسان على التعلم والاستكشاف. من أهم تلك المحددات: “البيئة“، فالأصدقاء والعائلة يلعبان دورا مهما في تشكيل الفضول لديك؛ لأنك ببساطة إذا كنت ضمن بيئة تهتم بالمعرفة، ولديها فضول معرفي، سوف ينشئ لديك ذات الفضول، على عكس ما لو كنت في بيئة لا تهتم بذلك.
من المحددات الرئيسية للفضول أيضا: “الاهتمامات“، فالأشياء التي تشكل اهتمامك هي نفسها التي تتغذى عليها شعلة الفضول لديك، وفي ذات السياق تعد “أهدافك الشخصية” محفزا قويا لفضولك، ففي رحلة تحقيق الأهداف، يعمل الفضول على تجاوز العقبات التي تواجهك، عبر اكتشاف منافذ جديدة، والبحث عن أفكار إبداعية لتحقيق أهدافك.
كُلَّمَا أَدَّبَنِي الدَّهْرُ أَرَانِي نَقْصَ عَقْلِي *** وَإِذَا مَا ازْدَدْتُ عِلْمًا زَادَنِي عِلْمًا بِجَهْلي
مثبطات الفضول
شعلة الفضول قد تنطفئ وحدها إذا لم يعتني بها صاحبها، وقد يعجل ذلك الانطفاء مجموعة من العوامل الخارجية المؤثرة التي يمكن تسميتها بـــ “مثبطات الفضول”، ويأتي على رأس هذه المثبطات “المجتمع”، فغالبا ما يستخف المجتمع بالإنسان عندما يراه يسير خلف فضوله، ويبحث في تفاصيل الأشياء؛ لأن ذلك ببساطة قد يأتي بنتائج خارج المألوف، والناس بطبعها تميل إلى الراحة والمعتاد.
ويمكن أن يكون “الوالدان” شريكا المجتمع في تثبيط الفضول، وقد يرتكبان خطئا كبيرا مع أطفالهم، قد تكون نتائجه كارثية، وهو عدم الإجابة على أسئلتهم، أو تجاهلها، والأخطر من ذلك تقديم إجابات اعتباطية مليئة بالفجوات، فهذا يؤدي إلى أمرين: الأول: أنه يدفع الطفل إلى كتم أسئلته، ما يؤدي لاحقا إلى انعدامها، وبالتالي قتل الفضول. الأمر الثاني: في ظل سهولة الوصول إلى الانترنت وتوفره لدى الصغار والكبار، فإن تجاهل أسئلة الطفل يدفعه إلى البحث عن إجابات أسئلته في ذلك العالم المفتوح، ما قد يجعله لاحقا ضحية الكذب والتضليل.
كما يعد “الغرور” من الأسباب المهمة لتثبيط الفضول، إذ يقف حاجزا بين صاحبه وبين الاستكشاف والبحث عن المعرفة، ويتقاطع ذلك مع “الاستكبار” و“نزعة التعالم”، يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
كُلَّمَا أَدَّبَنِي الدَّهْرُ أَرَانِي نَقْصَ عَقْلِي *** وَإِذَا مَا ازْدَدْتُ عِلْمًا زَادَنِي عِلْمًا بِجَهْلي
هذا البيت قاله واحد من أهم علماء المسلمين، وهو مؤسس علم أصول الفقه، ومع ذلك لم يتردد في الاعتراف بأن زيادة العلم يأتي معها إدراك كمية النقص في العلم. لكن في المقابل تجد من قرأ صفحات قليلة في علم ما، أو مسألة ما، يتحدث فيه/فيها وكأنه عالم متخصص أمضى حياته بين الكتب.
أما “التعليم الرسمي” فهو أيضا يعد أحد المساهمين الرئيسيين في تثبيط الفضول، يقول آينشتاين: “إنه لمعجزة أن ينجو الفضول من التعليم الرسمي” لماذا؟ لأن المدارس تتعامل مع الطلبة على أنهم مجرد أوعية، همها أن تملأهم بالمناهج المعلبة، بينما يجب أن تكون المدارس هي البيئة الأولى لتحفيز الطالب على التفكير فيما يتلقاه، وليس أن تجعل أكبر همه أن يحصل على العلامات التامة.
كيف تحيي الفضول؟
الفضول شعلة تولد معنا من النفس الأول، وبسبب العوارض التي تحدثنا عنها في الفقرة السابقة، فهي معرضة بشكل كبير للانطفاء، وقد تكون هذه الشعلة خفتت عند الكثير بسبب التعرض للعوامل السابقة أو أحدها، فهل من سبيل لإشعالها مرة أخرى؟ نعم، هناك طريقة فعالة جدا لتشعل بها فضولك، وهي: الإكثار من الأسئلة، اسأل نفسك باستمرار الأسئلة التالية: “لماذا وكيف وماذا لو” هذه الأسئلة كفيلة بأن تنشط مخيلتك وتثير شعلة الفضول لديك، الأمر الآخر “أجبر نفسك على الفضول” جرب أن تقرأ وردك اليومي من القرآن الكريم، ولكن بشرط!، أن تقف عند كل كلمة لا تعرف معناها وتبحث عن معناها. سيكون ذلك بمثابة تمرين رائع لك، وسوف تأخذ مكافئتك على هذا الفضول بازدياد المعرفة، وسينتابك شعور رائع لن تدركه حتى تجرب بنفسك.
الخاتمة
كن فضوليا، فحياة الفضولي ممتعة جدا، هي حياة مليئة بالاستكشاف والإبداع، والفضول طريق مميز للعلم؛ لأنه يدفعك للتعلم باستمرار، فتجد نفسك تتعلم أكثر مما كنت ستتعلم، وكل ما مررت على شيء، تجد جزءا فيه يثير فضولك فتبحث عنه، ثم تجد جزءا آخر يثير فضولك فتبحث عنه أيضا، هكذا هي حياة الفضولي، سلسلة لا نهائية من التعلم والاستكشاف. كن فضوليا، لكن لا تكن متطفلا على حياة الآخرين، ابحث في أسرار الكون، لكن لا تبحث في أسرار الناس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”.