المقالات

العلم وجائزة نوبل

في عام 1949 حصل الطبيب الأسترالي إيغاس مونيز1 على جائزة نوبل تقديراً لجهوده في علاج الانفصام الشخصي والاكتئاب والوسواس القهري ومجموعة أمراضٍ نفسيةٍ أخرى، وذلك من خلال جريمةٍ طبيةٍ كانت تسمى حينها  “بضع الفص الجبهي” أو الجراحة الفصية (lobotomy)، و سأشرح العملية بطريقة بسيطةٍ مُخلةٍ بالأصول العلمية الطبية تضمن تسطيح المعلومة واستباحة المعرفة، بحيث تكون جديرة على الأقل بالتسبب بفالجٍ لجدنا أبقراط لو قرأها في يومٍ من الأيام.

بدايةً يقوم الطبيب بطرقٍ خاصةٍ بفتح ثقبين في الجمجمة … (هل صدقت أن هناك طرقٌ خاصةٌ لذلك ؟! يقوم بذلك عبر مسمار طويل يشبه المفك مع مطرقة… كما تحفر ثقباً في أي جدار… الأمر بهذه البساطة) 

ثم باستخدام أداةٍ خاصة ( هذه المرة حقيقة) يقوم بفصل الفص الجبهي عن باقي أجزاء الدماغ من خلال إزالة خلايا المادة البيضاء التي مهمتها تحقيق التواصل بين الفصوص الدماغية، وبذلك ينفصل القسم الأمامي من الدماغ (المتهم الرئيسي بالأمراض النفسية) عن باقي الدماغ، و يتخلص المريض من الأعراض المزعجة المصاحبة للأمراض النفسية..

بعد ذلك تطورت العملية، وصار تجرى عبر العظم المحيط بالعين بطرق أسهل وأيسر حتى وصفها أحد الاطباء في تلك الحقبة أنها صارت علمية روتينية تُجرى خلال عشر دقائق، وتم علاج عشرات الآلاف من خلال اختراع هذا الطبيب. 

 ولأن للفص الجبهي وظائف حيوية أخرى مهمة، لم يتمتع المريض سوى ببضعة أشهرٍ من الراحة لتظهر بعدها أعراضٌ أخرى أشد مخاضاً وأوخم عاقبةً من المرض الذي كان موجوداً، حيث وصلت في بعض الأحيان إلى فقدان الذاكرة بشكلٍ كليٍّ… لتُمنعَ بعد ذلك العملية بالتزامن مع اختراع مضادات الاكتئاب بعد أن أودت بحياة كثيرين، وأحدثت فتقاً لا يمكن رتقه في أدمغة آخرين!

أو إن شئت قل إن العلم على هذه الصورة هو أشبه بعروسٍ خالدةٍ… فكل معلومةٍ لم تكتشف بعد هي عروسٌ عذراءُ تغري العلماء فيهَبُون في سبيل تحصيل مهرِها صفوةَ أوقاتهم، وحبابَة أيامهم.

قلت إن العلم التجريبيَّ ما زال يثبت نسبيته التاريخية بشكلٍ متكرر،علمٌ له تاريخ انتهاء، يتبدل ويتجدد مرةً بعد مرة، وما قصة اليوم إلا مثالاً بسيطاً على هذا، لقد سيطر علم تشريح أبقراط وجالينوس وابن سينا على سوق الطب، وبقيت المعلومات الخاطئة تُدرَّسُ ويُعمل بها قروناً طويلة، وكان يُعتقد أن التشريح نضج واحترق، ولن يستطيع أحدٌ الإتيان بجديد بعد “قانون” ابن سينا ، قبل أن يأتي الطبيب أندرياس فيزاليس2 ليمحو تلك الأٌبهةَ والقداسة عنهما، وكذلك الأمر في علم الصيدلة فكم وكم سحبت أدوية من السوق لاكتشافهم أنها كانت خاطئة، أو أنها لم تكن الخيار الأنسب.

والأمر ليس مقتصراً على علوم الطب، فلو تتبعت تاريخ تطور علم الأحياء والكيمياء والفيزياء والفلك لوجدت أن ذلك مطردٌ فيها أيضا، ولوجدت الكثير من الحكايات والقصص المشتهرة، ويبدو ذلك أوضح كلما كانت الفترة الزمنية الممتدة المدروسة أطول، وإن شئت فانظر إلى معلوماتهم الموثوقة عن الفيزياء والرياضيات والفلك والطب قبل ألف عامٍ فقط، باتت تُعد في زماننا هذا نُكتٌ نتندَّرُ عليها، مع أنهم كانوا يؤمنون بها ويعملون في ضوءها.

 فكم من مُسلَّماتٍ ما سَلِمَت، وكم من نظرياتٍ غُضَّ النظرُ عنها، ولا أخفيكم أن مناورات التجديد هذه تحمل في طياتها جمالاً خفيّاً وسحراً يأسر قلوب العلماء والمكتشفين، إذ أنه اعتذارٌ لطيفٌ من الأعلى للأدنى،أي من العلم إلى الإنسان، وهل هناك أجمل من الاعتذار؟! وهل القرابين في حقيقتها إلا اعتذاراً على هيئة دمٍ مسفوح؟أو إن شئت قل إن العلم على هذه الصورة هو أشبه بعروسٍ خالدةٍ، فكل معلومةٍ لم تكتشف بعد هي عروسٌ عذراءُ تغري العلماء فيهَبُون في سبيل تحصيل مهرِها صفوةَ أوقاتهم، وحبابَة أيامهم. 

تواضع الاعتذار ذاك، والجمال المحتمل هذا هو الذي يغري الناس اليوم بعبادة العلم واتخاذه إلهاً جديدأً هناك، ولكن هذا التراكم من التبديل والتحديث قَمِنٌ بأنْ يعبثَ بصنمه ويمزقَّ قداسته في قلوب من يؤمنون به ديناً أكثرَ منطقيةً من النصرانية وإلهاً أعدل من باقي الآلهة، فالإلهُ لا يغيرُ أرائه كل يوم!،ولا يجدد عقيدته كلما طنَّ مخترعٌ أو نعق مكتشف. 

وأما أن يأخذ صاحِبنا جائزة نوبل فلا عجب في ذاك! إذ أنه نالها بعد أربعة عشرَ عاماً من إجراء العملية لأول مرة، وهو كذلك -الطبيب- له اجتهادات في مجالاتٍ أخرى، ولم يكن هذا الظهور الأول له على هذه الحلبة، ولكن عندما نرى المشهد الآن كاملاً نستشعر قصوراً آخر من جهل هذا الإنسان، فكيف يعطى رجلٌ جائزة نوبل على جريمة؟! وكم هي ضيقةُ الأفق تلك العقول البشرية التي حكمت له بذلك، أولا يكفيها عيباً أن نُسِخ العمل بتلك العملية كاستطبابٍ نفسيٍّ!

ومما لا ريب فيه أنها جائزة نوبل في السلام باتت منديلاً يستخدم بما يتوافق مع مصالح البرلمان النرويجي السياسية (باعتبار النرويج هي الدولة المانحة) وكذلك فإنها أقرب دائماً لأولئك الذين يظهرون الولاء للسامية و لبقاء الكيان الصهيوني.

 وعلى ذكر المحروسة -جائزة نوبل- لا يخفى على أحدٍ أن مصداقية جائزة نوبل في المجالات العلمية أحسن سمعةً من مصداقيتها في مجالات أخرى كالأدب والسلام، ولكنها تبقى كغيرها من الأوسمة العالمية تقتحم حمى عفافها الشكوك، وتعبث في قداسة رمزيتها الريب، فلك أن تتخيل أن الوزير البريطاني-أحد نجوم الحرب العالمية الثانية- ونستون تشرشل حصل على جائزة نوبل في الآداب وذلك عن مذكراته في الحرب بوصفها عملأً أدبيأً من الطراز الرفيع! (رغم انتقادات الشارع الأدبي)وفي مجال السلام استحقها اللطيف هنري كيسنجر عن جهوده في حرب فيتنام (رغم استقالة اثنان من أعضاء اللجنة المانحة لهذا السبب) ونالها الرئيس الأمريكي باراك أوباما عام 2009 بينما كانت جيوش الأمريكان تنشر الأمن والحب في ربوع العراق، وأخذها طبيبنا تكريماً لتجاربه في أدمغة الناس!.

ومما لا ريب فيه أنها جائزة نوبل في السلام باتت منديلاً يستخدم بما يتوافق مع مصالح البرلمان النرويجي السياسية (باعتبار النرويج هي الدولة المانحة) وكذلك فإنها أقرب دائماً لأولئك الذين يظهرون الولاء للسامية و لبقاء الكيان الصهيوني في سلامٍ وأمانٍ بين شعوبٍ كارهةٍ لقيامه، وما نيل أنور السادات وياسر عرفات  للجائزة إلا مثالاً صارخاً لتلك الفكرة، وربما استُعملت الجائزة لتلميع بعض الشخصيات وإبرازها على الساحة العامة والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصر وقد ذكرت مؤلفة كتاب “خيانة جائزة نوبل”3 أوني توريتيني تفاصيل الكثير من قصص جائزة نوبل في السلام.

وصحيحٌ أن المجالات العلمية ما زالت منزهةً عن ذلك السفه إلا أنها لا تخلو من أخطاء باتت تنقب في جدار ثقتها شيئاً فشيئا، فقد سُحبت العديد من أبحاث الحائزين على الجائزة بتهمة التزوير، وبعضها الآخر بحجة التصحيح 4 ، ولكنني ما بت أخشاه اليوم هو أن تسلك هذه الأخرى مسلك أخواتها، وأن تستخدم لأسباب لا علاقة لها بالعلم، وكأني أسمع زرقاء اليمامة تنقل لي الآن خبر تكريم أولئك المشتغلين في مجال أبحاث الجندرية، أو أحد الذين يلهثون وراء اكتشاف وراثيٍّ يدعم الرؤى القائلة بالمثلية، وإن ذلك ليس ببعيدٍ عن القروش التي تدفع الملايين للمختبرات ومراكز الدراسات للميل بلجام أبحاثهم إلى تلك الاتجاهات، وعندها ستصبح جائزة الأوسكار في الأفلام أوالبالون دور في كرة القدم أعلى رتبةً وأكثر مصداقيةً. 

1  أنطونيو كتانو دي أبرو فريرا إيغاس مونيز طبيب أعصاب برتغالي حصل على جائزة نوبل في الطب عام 1949 مناصفة مع السويسري فالتر هس لوصفه عملية فصل الفص الجبهي

2 أندرياس فيزاليوس (1514 م – 1564 م) كان عالم تشريح  وطبيبًا ومؤلفًا لأحد أكثر الكتب تأثيرًا في علم التشريح    ومؤلف كتاب De Humani Corporis Fabrica Libri Septem

Betraying the Nobel: The Secrets and Corruption Behind the Nobel Peace Prize 3  

4  https://aja.ws/9gm4y3 

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى