يانصيب الجنسية،بين الانتماء للعرق والانتماء للفكرة
لا يمكن لأمثالي ممن اختبروا الصراعات والتشرد واللجوء ألا تؤرقهم فكرة جنسياتهم التي تحولت إلى لعنة عليهم، ولا يمكن ألا تُهدر حياتهم بحثاً عن حلول والتفكير في السفر المتكرر لإيجاد وضع يؤمن الاستقرار المزعوم، وفي مثل هذه الظروف يصعب أيضاً تفسير هذا الوضع للأطفال الذين يتساءلون لماذا فرضت علينا قيود تختلف عن أقراننا؟
إن الحديث في هذا الموضوع شائك متفجر، فهو يثير حساسية وانزعاجاً عند الآخرين، لأنه على ما يبدو يطرح أحد حقوقهم المكتسبة للمساءلة، ولكنه يحتاج مصارحة وطرحاً جريئاً للخروج من هذه الدوامة.
حول المواطنة والجنسية
أحدث كتاب ” يانصيب المولد، المواطنة وعدم المساواة العالمية ” للأكاديمية المتخصصة في دراسات الهجرة والمواطنة والأعراق ايليت شاشار Ayelet_Shachar والمنشور 2009، سجالاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية وردود أفعال مختلفة عند المتخصصين وذلك للفكرة الجريئة والمستفزة التي طرحها، وتدور فكرة الكتاب حول تحول فكرة المواطنة والجنسية إلى ما يشبه الممتلكات الموروثة، واليانصيب الذي يملك دوراً كبيراً في تحديد حاضر أي مولود ومستقبله، ومستقبل عائلته وذريته في نفس الوقت، والامتيازات التي قد يحظى بها أو التي قد يحرم منها والتي تعود إلى ظروف ولادته في مكان أو زمان ما.
تجادل الكاتبة في كتابها أن النظام القومي الحالي والاستحقاقات الناجمة عنه والتي تمنح الجنسية والمواطنة للأفراد تتم وفق سياقين أساسين “مكان المولد” و”صلة الدم”، بمعنى أن ولادة أي فرد في مكان ما أو انتسابه لعائلة تتمتع بحقوق مواطنة في نظام سياسي معين يعني بالضرورة انتماء المولود لهذا النظام السياسي الذي قد يكون لعنة أو منحة له، وهو ما يعزز حالة عدم العدالة والمساواة في العالم.
فالأشخاص الذين ولدوا في المكان المزدهر والوقت المناسب حصلوا على السبق، وانتفعوا من الفرص الذهبية والميزات التي منحتها لهم تلك الأنظمة السياسية، فتلقوا خدمات صحية وتعليمية وفرصاً أفضل للعمل، على عكس أولئك الأشخاص الذين كانوا أقل حظاً وولدوا في الجانب الآخر من حدود الأمن والازدهار، والذين حرموا من فرص مماثلة، بل تم استبعادهم من الوصول إلى الأنظمة السياسية الغنية والبراقة.
وتعتبر الكاتبة أن فكرة الجنسية تخلت عن كونها انتماء ومساهمة وتأثير إيجابي حقيقي في المجتمعات، وتحولت إلى فكرة سياسية تركز على السيطرة على الحدود والموارد وضمان تمتع فئات محدودة بها، ووضع الحدود الفاصلة بين من ينتمون بشكل أصيل، ومن ينتمون بشكل مؤقت، وبين من لا ينتمون.
لقد أسهم هذا النظام القومي على تعزيز الانقسام بين شعوب العالم وضمان بقاء تلك الشعوب راسخة في معاناتها لعقود، وضمان استئثار الفئة الأكثر حظاً بالمال والسلطة والقوة التي ترسخت عاماً بعد عام، وأصبحت حقوق المواطنة وسيلة لسيطرة الحكومة على الأجيال قبل ولادتهم، وتركزت أهم وظائف الحكومات في حراسة البوابات “الحدود” و ” تعزيز الفرص” الخاصة بهذه المجموعة التي جمعتها الأقدار في مكان واحد أكثر مما جمعها الانتماء.
“يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ.”
طوباوية الفكرة وعقلانية الإسلام
قد يُنظر لمثل الفكرة الواردة في الكتاب بطوباوية ويتم اتهامها بأنها مغرقة في الرومانسية والمثالية، وأنها تتحدث عن فكرة العدالة والمساواة المستحيلة التي لا يمكن تطبيقها في واقعنا الحالي، خاصة من قبل أولئك الذين ولدوا أو عاشوا في بيئات مستقرة أو حملوا جنسيات جعلتهم في مصاف العالم الأول، ولكنها بالنسبة للدول النامية والمتعثرة بأنظمة سياسية فاشلة قد تبدو واقعية ومنطقية إلى أبعد الحدود.
وكثيراً ما يتعلل البعض بالأقدار التي مايزت بين الأفراد متعللين بالآية الكريمة 165 من سورة الأنعام ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ وذلك لتبرير أن فكرة التمايز هي واقع قائم يدخل ضمن الامتحانات التي تفرض على الإنسان وعليه أن يرضى بهذا القدر، حتى لو لم يكن ملبياً لطموحاته.
لقد أقر الإسلام بهذا التمايز، بل جعله ابتلاء للطرفين، فاستحق العقوبة من قصّر وتقاعس عن مهمة الاستخلاف وفقاً للآية الكريمة، كما وضع له ضوابط صارمة جعلت الجميع متساوين أمام الدولة والقانون يتمايزون بينهم في صلاحهم وتقواهم فقط، وقد أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع ما يؤكد على ذلك قائلا:” يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ.”
لقد كان الانتماء للأمة وللدولة يشترط الدخول في الإسلام والتواجد لا الولادة على أراضيها، فكل المسلمين كانوا رعايا في الدول الأموية والعباسية والعثمانية، وكان الانتماء للفكرة وللنظام هو الأساس لا الانتماء إلى الأرض والحدود، وحتى مشكلة العبيد والمماليك تم حلها وإنشاء حالة من المساواة والانتماء حررتهم من الرق وأوصلت المماليك إلى سدة الحكم في فترة ما، وقدمت حلاً لغير المسلمين واستوعبتهم في نظام أهل الذمة وحافظت على حقوقهم المتساوية مع البقية.
لقد جذب هذا النظام المرن كل العقول الخلاقة من مختلف الخلفيات كالمغناطيس، وخلق البيئة التي تراعي العدالة وتشجع على الابتكار، وأفسح المجال لحرية الحركة والفكر مما أدى إلى تمازج الثقافات والتقاء الأفكار، وهو ما أنتج حضارة إسلامية امتدت لقرون كانت لها بصمتها الراسخة في مجال العلوم، والفكر، والسياسة، والاقتصاد وسائر العلوم.
لقد كانت سياسة اللجوء السخية التي قدمتها بعض الدول في وقت سابق تعود إلى مصالحها الذاتية أكثر من كونها التزاماً بمسؤولياتها العالمية
الفكر القومي والتمركز حول العرق
لقد أسهم ظهور الدولة القومية بتعزيز التمايز، وخلق حالة من احتكار الثروات والموارد والسلطات، إلى جانب حالة أخرى من التمايز بين الأعراق، وكان ظهور مفهوم اللجوء فيه “نتيجة حتمية غير مقصودة لهذا النظام” كما تقول إيمي حداد الباحثة المشهورة في هذا المجال، فقد اعتبرت بأن الانتقال إلى النظام القومي أدى إلى تسرب مجموعات بشرية لم يكن لها مكان في هذا التقسيم أو فقدت مكانها لاحقاً لأسباب مختلفة، وكان على المجتمع الدولي أن يوجد حلاً لهذا الخلل في النظام بإنشاء فكرة اللجوء ونظامه ومعاهداته.
لقد حاولت العديد من الدول التعاطي الواقع والنظام الحالي، والتحايل على مشاكل تراجع النمو السكاني وشيخوخة المجتمع في حدودها القومية من خلال إدارة عملية الهجرة والتحكم بالحدود، والعمل على استقطاب الكفاءات، فأنشأت بعض الدول المتقدمة أنظمة أكثر عدالة تسمح لأصحاب الخبرات والمميزات بالقدوم تحت إغراء الحصول على الجنسية مستقبلاً مقابل الانتفاع من وجودهم ومن خدماتهم لأمد طويل، وأصبحت تتغنى بالتنوع الثقافي الذي تملكه على اعتباره مكسباً ونجاحاً.
لقد كانت سياسة اللجوء السخية التي قدمتها بعض الدول في وقت سابق تعود إلى مصالحها الذاتية أكثر من كونها التزاماً بمسؤولياتها العالمية، إذ تشير التقارير والدراسات إلى أن السويد عندما منحت اللاجئين السوريين الإقامة الدائمة كانت تعاني من أزمة جادة في هرمها الديمغرافي، وكانت بحاجة لاستقدام أعداد كبيرة من الشباب لتعديل هذا الهرم الذي كان يتجه نحو الشيخوخة بسرعة، وكذلك الحال في ألمانيا وكندا اللتان عرفتا مبكراً احتياجهم المستقبلي لليد العاملة الشابة فاستقبلتا خيرة العقول من كافة دول العالم.
إننا نخسر!نعم إننا نخسر ثروتنا البشرية وتلك العقول والطاقات المميزة التي تبحث عن التقدير والاستقرار حتى تتمكن من الإبداع
لو نظرنا في واقعنا العربي، لوجدنا أن العديد من دولنا العربية والإسلامية تسير في اتجاه مغاير، فتتمسك بصفاء العرق وتنظم الحدود بين المواطن والغريب، إذ لا مجال لهذا الأجنبي أو الغريب أو الوافد أن يحظى بنفس المنزلة أو الحقوق ولو أفنى عمره وقدم خلاصة خبرته لهذه الدول، وحتى في الحالات المحدودة التي يتمكن فيها المحظوظون من تحصيل جنسية، تظل الوصمة حاضرة ويظل الانتماء منقوصاً ويظل هذا الأجنبي المجنس غريباً لا يستشعر الانتماء، بل يستعيد في كل لحظة شريط معاناته مع التمييز والإقصاء.
إننا نخسر!! نعم إننا نخسر ثروتنا البشرية وتلك العقول والطاقات المميزة التي تبحث عن التقدير والاستقرار حتى تتمكن من الإبداع، هذه العقول وفية جداً لمن يدرك قيمتها ويحتويها، وهي قادرة على رد الجميل بأكبر منه فيما لو وجدت الحضن الدافئ الذي يحتويها، ولئن كانت بعض بلادنا منكوبة بالكوارث والصراعات تلفظ أبناءها وتطردهم وتلقي بهم طعاماً للأسماك في رحلة لجوء محفوفة المخاطر، فهناك في عالمنا العربي متسع يمكن أن يحتوي ويستوعب ويستثمر ويستفيد وينهض بهذه الطاقات البشرية الهائلة فيما لو أحسن إدارتها ، فهل من معتبر؟! .