المقالات

أفصحُ وأبلغ الدّعاة إلى الله تعالى في هذا العصر

وأصبح عدد الذين يشهرون إسلامهم شهريًا من حينها لا يقلّ عن مئة!

مصطفى قاراجا رئيس جمعيّة التّواصل بين الثّقافات في إسطنبول، وهي جمعية تقع بالقرب من جامع السّليمانية التاريخي الذي يقصده السيّاح من كل أنحاء العالم في إسطنبول، عندما زرته قبل مدة قريبة بدأت حديثي معه عن غزّة وعن العبور العظيم في السابع من أكتوبر، وعن ثبات أهل غزة وجهادهم؛ فقاطعني قائلًا: لا يعلم أهل غزّة أنّهم يجاهدون ويثبتون هناك ونحن نقطف ثمرة جهادهم هنا في إسطنبول وفي جمعيّتنا؛ فلمّا سألته: كيف ذلك؟ استرسل قائلًا: جمعيّتنا تعمل على دعوة السائحين غير المسلمين القادمين إلى إسطنبول إلى الإسلام، ويتركز نشاطنا في جامع أيا صوفيا وجامع السليمانية، وعندنا فريق من المتطوعين من مختلف الجنسيات ممّن يتقنون الحديث بثلاثة عشرة لغةً، ونحن نعمل بشكل رسميّ منذ ستّ سنوات، ومنذ ذلك الوقت ما يزال فريقنا ذاته لم يتغير، ومواطن عملنا هي ذاتها، وأدوات عملنا كذلك لم تتبدّل، وفي السنوات الماضية كلّها كان متوسط عدد الذين يشهرون إسلامهم في جمعيتنا شهريًّا يتراوح بين ثلاثين وأربعين شخصًا، وكانت جلّ أسئلة السائحين عن الإسلام تتركز على القضايا التي تثار عادة في الإعلام الغربي من مسائل تتعلق بالحريات العامة والمرأة ومعاني العبادات، غير أنّ الأمر اختلف منذ تسعة أشهر إذ غدت جلّ الأسئلة عن غزّة وما يجري فيها، وعن أسرار صمود أهلها، وعن تعبيرات المكلومين فيها بالرضا والحمد، وأصبح عدد الذين يشهرون إسلامهم شهريًا من حينها لا يقلّ عن مئة!

غزة بكلّ ما فيها من دماء مهراقة ظلمًا وعدوانًا، وما فيها من ركام ودمار، وما فيها من أنين الألم الممزوج بالرضا، والتوجع المعجون بالحمد، وتفوّق المظلوم على ظالمه في الصورة الحضاريّة؛ تتصدّر قائمة الدعاة إلى الله تعالى، فهي اليوم الأعظم أثرًا في التعريف بالإسلام بصورته الحقيقيّة والتفوّق على السرديّات المشوَّهة والمشوِّهة لهذا الدين العظيم في العالم.

لطالما تكرّرت على المسامع عبارة “الدعوة إلى الله تعالى بالحال أبلغ من الدعوة إليه بالمقال” ولا تكاد تتجسّد هذه القاعدة بوضوح وانطباق تام كما تنطبق على غزة اليوم، فهي لا تحدّث النّاس عن الإسلام، ولا تقدّم الدروس العلميّة ولا البرامج الدعويّة ولا تشرح المتون ولا تقدّم الدورات في الإيمان والاعتقاد، لكنّها تفعل ذلك بثبات أبنائها جميعًا؛ رجالها ونسائها وأطفالها ومجاهديها ما يفوق ذلك كلّه تأثيرًا وبلاغًا.

فأهم ما قدّمته غزّة اليوم أنّها خلّت بين الإسلام والنّاس

لستُ من المولعين بتقديم وتبنّي المبالغات عن دخول النّاس في دين الله أفواجًا بعد كلّ نازلة تنزل بالمسلمين، ولا أقول: إنّ العالم الغربيّ اليوم صار مسلمًا بسبب غزّة، وإنّ عشرات الآلاف يدخلون الإسلام تترى على خلفيّة ما يجري في غزّة، غير أنّ تأثير غزّة في تقديم صورة الإسلام بعد أن شوّهتها الآلة الإعلاميّة الغربيّة، وتحوّل شرائح من النّاس المؤثرين إلى الإسلام قد استفاض بشكل لا يمكن إنكاره.

لكنّ أهمّ ما فعلته غزة ـ باعتقادي ـ ويجعلها أفصح الدعاة وأبلغهم تأثيرًا في هذا العصر هو انبعاث الأسئلة عن الإسلام، انبعاث الأسئلة عن كل ما كان مسلّمات حوله في العقل الغربي، وجعل الإسلام من جديد على طاولة البحث بطريقة جديدة تعتمد التشكيك بكل ما عملت المنظومة الغربيّة على زرعه من تصورات في الوجدان الغربي حول هذا الدّين؛ مما يفسح المجال أمام دراسة الإسلام بشكل موضوعي بعيدًا عن التحيزات المسبقة، وهذا الوصول دون التحيزات المسبقة كان أحد أهم مطالب النبيّ صلى الله عليه وسلّم من قريش لنشر الإسلام والتعريف به إذ كان يقول لهم: “خلّوا بيني وبين النّاس” فأهم ما قدّمته غزّة اليوم أنّها خلّت بين الإسلام والنّاس.

ميغان رايس؛ مؤثرة أمريكية وتيك توكر شهيرة؛ كانت اهتماماتها بالطّبخ والتسوّق وكانت تظهر دومًا ضاحكة ساخرة؛ غير أنّ متابعيها تفاجؤوا بظهورها في أكتوبر؛ تشرين الأوّل الماضي باكية تتحدّث عن المجازر في غزّة، لتظهر بعد ذلك معبّرة عن دهشتها من صمود غزّة وأهلها، وأّنها سألت عن السرّ في صمودهم وتكرارهم “الحمدلله” رغم كلّ ما ينزل بهم من مجازر ودماء، فكانت الإجابة: إنّه القرآن؛ لتعلن ميغان أنها ستبدأ قراءة واستكشاف القرآن الكريم وتدعو متابعيها لمشاركتها في ذلك فينضم إليها المئات من متابعيها لتصل بعد مشاركة مقاطع من القرآن الكريم إلى أنّ هذا الدين هو ما كانت تبحث عنه فتعلن إسلامها وهي مرتدية الحجاب، ومثلها كانت المؤثرة الأمريكية إليكس التي كانت قناتها للرقص ونقد الأغاني، وكذلك الناشطة والمؤثرة الكندية ليندسي نيكول كلّهن يشتركن في أنّ عزّة أثارت عندهنّ السؤال عن سبب صمود النّاس فانطلقن يستكشفن القرآن الكريم ليجدن فيه إجابات عن كثير من الأسئلة المؤرقة لهنّ، وليكون بعد ذلك إعلان إسلامهنّ على يديّ غزّة.

القوّة الحضاريّة التي تملكها غزة هي التي جعلت أسئلتنا تدور في ملعبهم بعد أن كانت أسئلتهم تدور في ملعبنا؛

 هؤلاء المؤثرات ما هنّ إلّا نماذج للتمثيل لا الحصر، ومن خلال هذه النماذج وغيرها الكثير تؤكد غزّة أنّ امتلاك القوّة الحضاريّة؛ قوّة الفكرة وقوّة المبدأ هو المؤثر الحقيقيّ في الأفكار مهما استبدّت القوّة واستعلت التقنية الطاغية المدمرّة، فالإنسان الذي يحمل الفكرة هو المؤثّر الحقيقيّ وهو القوي الفعليّ، ولو كان دمه مراقًا وأشلاؤه متناثرة؛ وهذا لا يعني الاستغناء عن قوّة المادة والتقنية والسلاح ولكنّه تأكيدٌ أنّ هذه القوة بلا فكرة قويّة راسخة في النفس متدفّقة من الروح لا تثمر شيئًا سوى الخراب أو الهوان.

القوّة الحضاريّة التي تملكها غزة هي التي جعلت أسئلتنا تدور في ملعبهم بعد أن كانت أسئلتهم تدور في ملعبنا؛ فمنذ أكثر من عشر سنوات ونحن منشغلون مع الشباب بأسئلة الإلحاد المعاصر وأسئلة النسوية والجندر وشذوذ المثليّة، وهي أسئلتهم التي تدفقت إلينا في غفلة حضارية وهزيمة نفسيّة منّا، غير أنّ غزّة اليوم أحدثت فارقًا مهمًا وهو أنّ أسئلتنا أيضًا غدت تدور في ملعبهم مما يحدث توازنًا حضاريًا مهمًا، والنّاس قادرون على المفاضلة بين الأسئلة وإجاباتها وما يحقق منها إنسانيّة الإنسان منسجمًا مع فطرته.

هذا نزر يسيرٌ مما فعلته غزّة في فضاء التعريف بالإسلام في العالم عند غير المسلمين؛ أمّا تأثير غزّة الدعويّ في الفضاء الإسلاميّ فهذا يحتاج تفصيلًا في غير هذا الموضع، وهذا كلّه يجعل أفصح الدّعاة إلى الله تعالى بلا منازع، وأعمق المعرّفين بالإسلام على صورته وحقيقته، وأبلغ النّاطقين باسمه في هذا الزمن؛ غزّة!

محمد خير موسى

كاتب وباحث متخصص في قضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب والتيارات الفكرية

محمد خير موسى

كاتب وباحث متخصص في قضايا الفكر الإسلامي ومشكلات الشباب والتيارات الفكرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى