المقالات

الإحياء الإسلامي على الطريقة الخلدونية الجديدة

كثيراً ما يُذكر ابن خلدون على أنه فيلسوف مبدع استطاع تقديم نموذج تفسيري لحركة التاريخ، ولدورة نشأة الدول والحضارات وانهيارها. بيد أنه في سياق الحديث عن الإصلاح أو الإحياء الإسلامي، قلما يُتطرق لنظرياته المرتبطة بشدة بهذه الدورة؛ ذلك أن أغلب القراءات المعاصرة تصف الإحياء الإسلامي بوصفه ظاهرة  حديثة أتت ردة  فعل على الاستعمار الغربي أو انهيار الخلافة الإسلامية، الأمر الذي يرفضه عالم الاجتماع الماليزي السيد فريد العطاس من زاويتين: الأولى، أن ظاهرة الإحياء الإسلامي موجودة منذ القرن الهجري الأول، وقد تكررت كثيراً من طوائف شتى عبر التاريخ الإسلامي، والأخرى  أن هناك إمكانية لبناء  رؤية جديدة للنهوض والبعث الإسلامي في واقعنا المعاصر، انطلاقاً من الإرث الخلدوني، وبنظر مختلف عن النمط الإصلاحي الإسلامي المعاصر، بشرط سد الثغرات الموجودة في الإطار التحليلي الخلدوني عبر إمداده بالنظريات المتعلقة بالاقتصاد السياسي وأنماط الإنتاج. هذا المقال هو محاولة لعرض ومناقشة هذا النظر.

تغيير المنكر وتأسيس الدول

يشير العطاس إلى أن الركن الأهم المحرك لموجات الإحياء منذ فجر التاريخ الإسلامي وفقاً لابن خلدون هو “تغيير المنكر” سواءً كان عملياً (ظلم وفجور) أو عقدياً (بدع وشرك). عادةً، ينمو المنكر ويتكدس في المدن نظراً للوفرة في كل شيء ونمط الحياة المترف والظلم. وبشكلٍ دوريٍ، تنبعث طوائف من الناس (بعيدة عن المدن) لإصلاح الخلل الحاصل وإعادة الأمور إلى نصابها، ثم بعد مدة تكرر هذه الدورة، وهكذا دواليك. طبقاً للقراءة الخلدونية فإن الإصلاح يجري في سياق التغيير السياسي الجذري، تغيير يشمل النظم والنخب الحاكمة والجهات المرتبطة بها. يحدث هذا الأمر بعد انتشار دعوة دينية واتحادها وتوحيدها لقوى مجتمعية فتية؛ أهم صفاتها التجانس والشجاعة والتضامن وبساطة نمط العيش وطرق كسبه (بدو أو قبائل)، أو ما يسميه ابن خلدون بالعصبية، ثم مواجهة السلطات الحاكمة والتغلب عليها.

نموذج مختلف عن الإحياء المعاصر

هذا النموذج من الإحياء يختلف جوهرياً عن نموذج الإصلاح السائد في واقعنا العربي المعاصر؛

هذا النموذج من الإحياء يختلف جوهرياً عن نموذج الإصلاح السائد في واقعنا العربي المعاصر؛ إذ تبرز سردية “التجديد” منطلقًا للتحرك، ويعول فيه على استقطاب شرائح المثقفين والأكاديميين والنخب الفكرية وحشدهم على أنهم حملة للمشروع الإصلاحي، ويُنظر إلى الكيانات الحديثة كالنقابات المهنية والأحزاب السياسية والجمعيات الاجتماعية المتمركزة في المدن الكبرى والعواصم على أنهم روافع أساسية للمشروع، وليس العصبيات والشبكات الاجتماعية التقليدية.  

التجارب التاريخية

وقد اختلفت مشارب تجارب الإحياء في الحضارة الإسلامية (على وفق الإطار الخلدوني) ومآلاتهم منذ القرن الهجري الأول إلى يومنا هذا، وعلى امتداد العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، عرباً وعجماً، سنةً وشيعةً وخوارج. فمن ناحية، نجح الخوارج والشيعة في ترجمة جهودهم المتعاقبة في تأسيس دول متعددة في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وكان نصيب الشيعة أكبر؛ إذ نجحوا في إقامة دول أكثر وأقوى في قلب العالم الإسلامي، وأهمها الدولة البويهية والدولة العبيدية (الفاطمية) والدولة الصفوية، إلا أنه ظلت الهيمنة لأهل السنة والجماعة في غالب حقب التاريخ، من الخلافة العباسية شرقاً إلى حضارة الأمويين في الأندلس غرباً، مروراً بالسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والعثمانيين والمماليك ودولة المرابطين، وغيرها الكثير، وانتهاءً بإمارة أفغانستان الإسلامية (حركة طالبان سابقاً) في عصرنا الحالي، التي ينسحب عليها النموذج الإحيائي الخلدوني القائم على اتحاد الدعوة الدينية بالعصبية القبلية بصورة ملفتة، مع إضافة شديدة الأهمية، وهي نجاح هذه التجربة في واقع ما بعد الحداثة، حيث الوهن الشديد في عموم الأمة الإسلامية، وتغير الكثير من المعطيات والسياقات الاقتصادية والسياسية المحيطة. وقد تصور الكثيرون (ومنهم العطاس) أن النموذج الخلدوني بصورته الكلاسيكية للتغيير (وإن كان ينبغي الاستفادة منه وإدخال بعض التعديلات عليه) قد تجاوزه الزمن. وكنت قد أفردت دراسة خاصة تحلل صعود حركة طالبان إلى السلطة لمن أحب الاطلاع عليها[1].

تجارب فاشلة

من ناحيةٍ أخرى، عرَّج ابن خلدون على تجارب تاريخية عديدة للإحياء الإسلامي باءت بالفشل، رغم التفاف خلق كثير حولها، وقيام أصحابها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي لأمراء الجور لإقامة العدل. فقهاء ومتصوفة وقادة آخرين من عموم المسلمين، ثاروا على الظالمين وأنكروا المنكرات، إلا أن دعوتهم الإصلاحية لم تكلل بالنجاح. والسبب الرئيس وفقاً لابن خلدون هو أن أنصار هذه الدعوات، رغم كثرتهم، لم تكن تجمعهم عصبية متجانسة قوية، إنما كانوا أفراداً، إضافةً إلى من انضم إليهم من الدهماء والغوغاء بحسب تعبيره.

بالعودة إلى مسألة التشبيك بين دورات نشأة الدول، وموجات الإحياء الإسلامي، يسوق لنا العطَّاس عدة أسماء غربية مهمة تنبهوا لهذه المسألة وإن تناولوها وفسروها بأشكال مختلفة وفقاً لأيديولوجيتهم الخاصة.

مقاربة تطهيرية

فالفيلسوف الإسباني خوسيه اورتيغا إي غاسيت (١٨٨٣- ١٩٥٥م) يصف محاولات الإحياء الإسلامي برمتها بأنها نزعة تطهيرية دورية تقوم على تكفير المشركين، ثم شنِّ الحرب عليهم باسم الدين، وهو وإن كان يتحدث عن الدولة الوهابية في زمانه إلا أنه يزعم أن الأمر ينطبق على التاريخ الإسلامي كله وعلى الدين الإسلامي نفسه. والعطاس وإن كان يرفض هذا التعميم، إلا أنه يتفق مع أورتيغا في أن تأسيس النظام السعودي جاء أيضاً على الطراز التاريخي الخلدوني: اتحاد دعوة دينية مع عصبية قبلية. 

مقاربة مادية

أما المؤرخ الألماني فريدريك إنجلز (١٨٢٠-١٨٩٥) صديق كارل ماركس المقرب، وعلى نهجه في تفسير أي نزاع بشري بطريقة مادية، من خلال عدسة صراع الطبقات، فيزعم أن جميع دعوات الإحياء الإسلامية كانت مجرد قناع وأداة حشد في سياق صراع مادي بحت تشنه المجتمعات البدوية الطامعة إلى السيطرة على ثروات المدن والتنعم بخيراتها، من خلال التوحد خلف نبي أو مهدي. الأمر الذي يرفضه العطاس ويثمن نظرة ابن خلدون متعددة المستويات، فهو يقرر وجود الدافعين الديني والدنيوي عند قبائل البدو الساعية للتغيير، يقول العطاس: “وكما رأينا سابقا، لم يكن البدو- عند ابن خلدون- يسعون إلى حياة الترف التي يتمتع بها أهل الحضر فقط، بل كانوا مدفوعين أيضاً بإرادة الإصلاح، حريصين على تغيير المنكر”.

مقاربة نفسية

وبعد سرد النظرية الخلدونية للإصلاح الإسلامي واستعراضها، وذكر المقاربات المختلفة التي تناولتها، يؤكد العطاس أن هناك فجوة تحليلية مهمة ينبغي سدها في سبيل صياغة نظرية خلدونية جديدة للإحياء الإسلامي، تفسر أكثر ما سبق من تجارب، وتقدم نظرية أكثر تكاملاً لمشاريع الإحياء الحالية والقادمة.

مقاربة وإضافة أخرى قدمها عالم الاجتماع الأنثروبولوجي البريطاني التشيكي إرنست غيلنر (١٩٢٥-١٩٩٥)، حيث جمع بين علم الاجتماع الخلدوني في ما يخص التغيير الاجتماعي- السياسي، مع نظرية الـتأرجح البندولي الدينية عند ديفيد هيوم. النظرية باختصار ترفض سردية الانتقال الأحادي من الشرك إلى التوحيد، وتفترض عوضاً عنها مبدأ التأرجح بين الشرك والتوحيد، فهناك نزاع نفسي دائم داخل الإنسان بين الشرك والتوحيد.

النظرية فردية نفسية بامتياز ولا تناقش الأمر من ناحية اجتماعية جمعية. وهنا تأتي أطروحة غيلنر أن النظرية الخلدونية توفر الأرضية الاجتماعية لنظرية هيوم الدينية. فالتدين في المدينة يأخذ الطابع النصِّي المؤسّسي حيث حواضر العلم. أما التدين في البدو فيأخذ الطابع الشخصي بصورة أكبر حيث يبرز الأولياء على أنهم وسطاء مفسرون للدين.

المفارقة المفاجئة، أن الإصلاح والإحياء يأتي عادةً من الأماكن والمجتمعات التي هي أقل علماً بالنصوص، ولكن بشرط وجود قيادة دينية تتمثل بالأولياء الصالحين، تقوم بدورها بتوحيد القبائل وزرع الحماسة الدينية فيها، وتوجيهها إلى تغيير المنكر المنتشر أكثر بقرب حواضر العلم!

وبعد سرد النظرية الخلدونية للإصلاح الإسلامي واستعراضها، وذكر المقاربات المختلفة التي تناولتها، يؤكد العطاس أن هناك فجوة تحليلية مهمة ينبغي سدها في سبيل صياغة نظرية خلدونية جديدة للإحياء الإسلامي، تفسر أكثر ما سبق من تجارب، وتقدم نظرية أكثر تكاملاً لمشاريع الإحياء الحالية والقادمة.

المقاربة الغائبة: الاقتصاد السياسي وأنماط الإنتاج

الفجوة تتمثل في الشق المتعلق بالاقتصاد السياسي؛ إذ تفتقر نظرية صعود وانهيار الدول عند ابن خلدون إلى تحليل مفصّل للنواحي الاقتصادية المؤثرة سياسياً بحسب العطاس، فبخلاف مسائل التقشف عند القبائل الثائرة والترف عند الدول المسيطرة تغيب أي تفاصيل أخرى شارحة لأسباب قوة عصبية القوى الثائرة المنطلقة لتأسيس الدول، وضعف عصبية الدول السائرة باتجاه التفكك والانهيار.

في هذا السياق، الكلمة المفتاحية هي أنماط الإنتاج، ونمط الإنتاج بحسب التعريف الماركسي هو كل ما يدخل في عملية إنتاج ضرورات الحياة، سواءً كانت:

١- قوى إنتاج، بما تشمله من: عمالة، أدوات، مواد خام، أراضي، ثروة حيوانية، مصانع وتقنيات، الخ..

٢- علاقات إنتاج، وهي: مجمل العلاقات الاجتماعية التي يجب على الناس أن تدخلها من أجل البقاء (إنتاج وإعادة إنتاج وسائل العيش) بمعنى آخر: أسلوب الاستيلاء على الفائض الاقتصادي والملكية الاقتصادية لقوى الإنتاج.

وعليه، فنمط الإنتاج هو نظام اقتصادي سياسي جامع بين علاقات وقوى الإنتاج.

النموذج المغاربي

ولأن ابن خلدون بنى نظريته في صعود وانهيار الدول أصالةً على النموذج الذي عايشه أو درسه بالمغرب، بدأ العطاس بدراسة أثر أنماط الإنتاج في نشأة وانهيار دول المرابطين والموحدين والمرينيين.

فدولة المرابطين وهي حركة دينية إصلاحية بقيادة المجاهد الكبير يوسف ابن تاشفين اعتمدت على قوة قبائل صنهاجة سواءً في مرحلة تأسيسها، أو في ما تلاها من تثبيت ملكها عبر بناء المدن وتوسعتها، وإبعاد القبائل الأخرى القريبة المهددة لها. أما دولة الموحدين بزعامة ابن تومرت فقد قامت بعد نجاح ابن تومرت في نشر دعوته الدينية في قبيلته: قبيلة مصمودة المتمركزة في جبال الأطلس، ثم حشدها ضد دولة المرابطين، التي سقطت في النهاية على يد خليفته عبد المؤمن بن علي.

وقبيلة مصمودة، رغم أنها لم تكن بقوة قبيلة زناتة التي سيكون لها دور هام جداً في تأسيس دولة المرينيين وعدة دول في أعقاب دولة الموحدين، إلا أنه بفضل دعوة ابن تومرت استطاعت أن تقيم هي دولة أولاً؛ وذلك بسبب انتشار وقوة الدعوة الدينية (رغم غلوها الشديد في التكفير) التي نشرها ابن تومرت، بيد أنه بعد انغماسهم في الترف وتفكك عصبيتهم، هُزموا أمام قبيلة زناتة.

وبحسب العطاس فإن مقاربة ابن خلدون لنشأة الدول المذكورة من الناحية الاقتصادية وانهيارها لا تتطرق لطبيعة النظام الاقتصادي الحاكم في هذه المجتمعات وأثر ذلك في قوة العصبية أو تفككها، وهو ما يحاول العطاس مناقشته.

الأنماط الثلاثة

في حقب ما قبل الاستعمار كان هناك ثلاثة أنماط إنتاج مطبقة في المغرب. الأول هو نمط الإنتاج الخراجي. والثاني هو نمط الإنتاج السلعي البسيط، أما الثالث فهو نمط الإنتاج الرعوي.  

ونمط الإنتاج الخراجي له عدة صور، بعضها شديد المركزية، وهو ما يعرف بالنمط الآسيوي؛ إذ تمتلك الدولة السيادة على جميع الأراضي وعلى الفائض الاقتصادي الزراعي والصناعي، وتقوم هي غالباً بالأعمال العامة، وفي مقدمتها نظام الري العام.

هذه الصورة لم تكن موجودة في المغرب ولم تكن سبب سيطرة الدول، إنما كانت الدول تستمد سيطرتها من القوة العسكرية القبلية المؤيدة لها، وبهذا، كانت الدولة تملك أغلب الأرض.

   الصورة الأخرى من النمط الخراجي كانت لا مركزية، وهي إقطاع المنفعة (غير الإقطاع الأوروبي)، وقد ساهمت في بقاء قسم من الأراضي الزراعية والحضرية خارج السيطرة المباشرة للدول. وفقاً لإقطاع المنفعة، فإن حق الانتفاع (لا الملك) ببعض الأراضي يُعطى للنخب السياسية والقبلية التي شاركت في تأسيس الدولة نظير خدمات إدارية أو عسكرية. وأحياناً تصبح هذه الأراضي ملكاً خاصاً للزعامات القبلية وتمنحهم درجة من الاستقلال عن الدولة، خاصة مع ضعف الدولة.  

وفي ما يخص النمط الثاني: النمط السلعي البسيط، فقد كان المنتجون الذين يمتلكون وسائل الإنتاج (أراضي- آلات) سواءً كانوا فلاحين أو صنَّاعاً، أو أصحاب حرف، يمدون السوق بمنتجاتهم العينية والخدمية المتنوعة من: غذاء، ونسيج، ونجارة، وحياكة، وصياغة الذهب الخ.. في المناطق الريفية والحضرية. وبخلاف النمط الأول (الخراجي) والنمط الثالث (الرعوي) فإن أصحاب هذا النمط من الإنتاج “لم يكونوا يعيشون على نتاج عملهم المباشر”. وكان شائعاً أيضاً العمل بأجرة في المجالات المتعددة لهذا النمط الإنتاجي.

أما النمط الأخير وهو النمط الرعوي، فنظراً للعوامل الجغرافية والتنقل الدائم لأصحاب هذا النمط، انحصرت وسائل الإنتاج في: الحيوانات المستأنسة كالإبل والأغنام والماعز التي توفر الحاجات الأساسية من طعام وشراب وملبس ووقود (الروث) ووسائل تنقل، إضافة إلى أراضي الرعي غير الصالحة للزراعة. وبشكلٍ عامٍ، فقد كانت ملكية وسائل الإنتاج فردية في هذا النمط، باستثناء أراضي الرعي التي كانت الملكية فيها لعموم القبيلة.

دمج العصبية وأنماط الإنتاج

والآن، سيدمج العطاس بين نظرية العصبية عند ابن خلدون ونظرية أنماط الإنتاج لإضافة تفسير جديد لصعود وسقوط دول المرابطين والموحدين والمرينيين.

يقول العطاس إن من أسباب صعود هذه الدول اعتماد القبائل الثائرة التي أسستها على نمط الإنتاج الرعوي المعزز من العصبية الدينية والاجتماعية للقبائل الثائرة، فوسائل الإنتاج فيها قدر كبير من المساواة، فالكثيرون يمتلكون الماشية التي تقوم عليها ضرورات حياتهم البسيطة، وأرض الرعي مشتركة بين جميع أفراد القبيلة.

أما عن تفسير سقوط هذه الدول من زاوية أنماط الإنتاج. فإن عصبية هذه الدول بمجرد تأسيسها، ومع الأخذ بالحسبان أنماط الإنتاج الموجودة آنذاك، تحديداً إقطاع المنفعة، تبدأ في التفكك؛ ذلك لأن قوة هذه الدول تنبع بالدرجة الأولى من الدعم العسكري الذي توفره القبائل المشاركة في التأسيس. وهذه القبائل وقيادتها تبدأ في الاستقلال عن الحاكم خاصة في مراحل ضعف الدولة، عبر السيطرة على الإقطاعات الممنوحة وعدم ردها إلى الدولة، إضافة إلى ضعف عصبية القبائل الحاكمة نفسها مع انغماسها في الحياة المدنية، وفي الجهة المقابلة، يبدأ الحاكم بالاستعانة بقبائل أخرى وبمنحها إقطاعات، مما يؤدي لضعف العصبية الحاكمة من جهتين.

خاتمة1

الإحياء الإسلامي وفقاً لابن خلدون لا يقوم على استقطاب الأفراد، إنما على تثوير المجموعات، وفي هذا السياق يمكن أن نتحدث عن أهمية الاتجاهات الإسلامية الفقهية والتزكوية الكبرى المنتشرة على امتداد العالم الإسلامي

في ختام هذا المقال، نلخص ونعلق على أهم مرتكزات النموذج الخلدوني الجديد للإحياء الإسلامي في رؤية فريد العطاس في النقاط التالية:

  • تغيير النظام السياسي والطبقة الحاكمة هو السياق الذي يحدث من خلاله الإحياء الديني.

هذا هو الأصل، ليس في تاريخ الأمة الإسلامية فحسب، بل في التاريخ عموماً، فالإصلاح يستلزم غالباً تغيير النظام الحاكم سواءً من خارجه (ثورة)، أو من داخلة عبر بعض أجنحة النظام عند الدول غير المركزية أو في مراحل ضعف الدول المركزية.  

  • الدعوة الدينية تمثل العصبية الشاملة التي تنتظم تحتها العصبيات الفرعية (العرقية- القبلية- الطبقية)، إلا أن دورها يظل جوهرياً. “كانت العصبية الإسلامية متجاوزة لكل القبائل، لكنها كانت تعتمد على عصبية أقوى تلك القبائل، التي بدورها كان الدين هو قوتها الدافعة”. ويرى العطاس أن هذا الأمر ينطبق أيضاً على العصبيات غير القبلية.

وهذه المعادلة من المعادلات الأساسية التي تفرق النموذج الخلدوني للإحياء عن النماذج الإسلامية المعاصرة التي يغلب عليها عدم مراعاة هذا الجانب أحياناً، وتصور العصبيات الفرعية خصما للعصبية الإسلامية في أحيانٍ أخرى.

  • الجماعات التي تتحلى ببساطة نمط كسب العيش والحياة غير المترفة هي من تحدث الإحياء الإسلامي.

هنا نقطة مهمة في ضرورة التفريق بين بساطة نمط العيش، وبساطة نمط كسب العيش، فلابد أن تكون الجهة القائدة للإحياء الإسلامي قادرة على كسب عيشها، وأن يكون نمطه بسيطاً، ولا يغني أحدهما عن الآخر.    

  • “الإحياء الديني هو نتيجة الصراع بين عصبية غير مؤسسية قائمة على الدين مع تدين مؤسسي في المناطق الحضرية”.

والعصبية غير المؤسسية هي البنى والشبكات الاجتماعية التقليدية القائمة في الغالب على روابط الدم والرحم والجوار، وأيضاً اللغة والعادات والتقاليد المشتركة، وهذه العصبية غير مرتبطة بهيكل إداري وتراتبية بيروقراطية هرمية كمؤسسات الدول والأحزاب والنقابات والجمعيات حتى المؤسسات الدينية، إنما القيادة فيها غالبا تأخذ الطابع الرمزي الأدبي، وعندما تتوفر القيادة والأثر الديني الكبير في هذه العصبيات غير المؤسسية يحدث الإحياء الإسلامي.

  • “يمكن فهم التجربة الدينية بما يتجاوز مظاهرها الفردية والنفسية، بوصفها ظاهرة اجتماعية إلى الحد الذي يجعلها نوعاً من العصبية، وكما يلاحظ جيمس سبيكارد فإن المقاربة الخلدونية لا تقوم على الأفراد”.

بلا شك، الإحياء الإسلامي وفقاً لابن خلدون لا يقوم على استقطاب الأفراد، إنما على تثوير المجموعات، وفي هذا السياق يمكن أن نتحدث عن أهمية الاتجاهات الإسلامية الفقهية والتزكوية الكبرى المنتشرة على امتداد العالم الإسلامي، والتي شكلت أنماط فهم وتطبيق للدين على وفق رؤية واجتهاد مؤسسين كبار، وما تبع ذلك من مسارات وجهود جماعية رسخت هذه المذاهب مجتمعياً.

وأخيراً، تبقى الزاوية الرئيسية الغائبة عن النموذج التحليلي الخلدوني التي سعى العطاس لتسليط الضوء عليها، وهي الأخذ بعين الاعتبار عند دراسة تجارب الإحياء الإسلامي أو صياغة نموذج جديد معاصر للإحياء الإسلامي، وهي السياق والنظام الاقتصادي السياسي. فأنماط الإنتاج وطرق كسب العيش في الدول، أو في الجهة المقابلة، عند قوى التغيير، لها دور تفسيري هام لارتفاع أو انحدار العصبيتين الدينية والاجتماعية عند الطرفين، وما يترتب على جميع العوامل السابقة المتداخلة من قيام دول وفناء أخرى، ومن ثم نجاح محاولات الإحياء الإسلامي أو فشلها.    


[1]  كرم الحفيان، تجربة طالبان: قراءة خلدونية، (إسطنبول: مركز المجدد، ٢٠٢١).  

  1. جميع الاقتباسات من كتاب السيد فريد العطاس: “تطبيق ابن خلدون: إحياء تقليد مهجور في علم الاجتماع”، الفصل الخامس: نظرية خلدونية للإصلاح الإسلامي.    ↩︎
أ. كرم الحفيان

باحث في التيارات والحركات الإسلامية ماجستير في علم الاجتماع

أ. كرم الحفيان

باحث في التيارات والحركات الإسلامية ماجستير في علم الاجتماع المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى