أفكار الكبارالمقالات

من التراحمية إلى التعاقدية

[1] لا شك أنّ العلاقات الاجتماعية تحكمها جملةٌ من المحددات والأعراف السائدة التي تحدد طبيعة المجتمع وترسم ملامحه، إذ تختلف هذه المحددات في المجتمع التقليدي عنها في المجتمع الحداثي، ففي حين تحتكم العلاقات في المجتمع التقليدي إلى الدين والعرف، فإنها ترتكز في المجتمع الحداثي إلى المنفعة المادية البحتة مع تقديس الأنظمة والقوانين الحاكمة التي تضمن تحقيق المنفعة. ولدى وضع هذه العلاقات في كلا نموذجي المجتمعات تحت المجهر فإنه تظهر الصفة الغالبة في كل منها، والتي حددها المفكر الكبير عبد الوهاب المسيري بمصطلحي التراحمية والتعاقدية وهما نموذجان من العلاقات الاجتماعية ميّز بينهما علماء الاجتماع الألمان بعد الحرب العالمية الثانية، فأطلقوا على الأول (الجماينشافت Gemeinschaft) الأقرب إلى نموذج التراحم، وأطلقوا على الثاني (الجيسيلشافت Gesellschaft) وهو نموذج التعاقد، الأمر الذي يدل على أن النموذج التعاقدي لم يكن طاغيًا في المجتمع الحداثي، وربما لم يطغً إلا بعد جان جاك روسّو والقول ببناء الدولة على نظرية العقد الاجتماعي. فالمجتمعات التقليدية سابقة للمجتمعات الحديثة والتراحم هو النموذج الأصل الذي يتحول تدريجيًا إلى النموذج القطب في المجتمعات الحداثية.

أولًا-  التراحمية

يعرّف المسيري التراحم بأنه تراضٍ إنساني بين البشر، ويبرز كنموذجٍ طاغٍ للمجتمعات التقليدية الزراعية التي تكون فيها العلاقات عضوية مركبة. والتراحم يعني وجود أبعاد غير مادية في العلاقات، وأبعاد إنسانية غير مستندة إلى المنفعة وحدها؛ بل تتوسع خارج إطار المنفعة واللذة إلى حسابات أخرى غير مادية وغير أنانية. فالواجب له حيزٌ واسع إلى جانب القيم الإنسانية المحفوظة في مفهوم الأسرة الممتدة التي تعتمد فيها الروابط على صلات القربى والجيرة والانتماء للحي والبلد، ويكون التعاون قيمةً بديهيةً وواجبًا من واجبات الفرد في هذه المجتمعات، فتأخذ مجمل أعمال التطوع شكلًا من أشكال الواجبات المنوطة بالفرد والتي لا يمكن أن يتقاضى عنها أي مقابل.

ولا يدعو المسيري هنا للعودة إلى المجتمعات التقليدية رفضًا لنماذج الحداثة، إذ يعتبر أن المجتمعات التقليدية لا تخلو من وجود جوانب مظلمة. كما لا ينفي وجود مظاهر التعاقد في هذه المجتمعات، بل يشير إلى تنامي هذه المظاهر تأثرًا بمجتمعات الحداثة والتحولات الاجتماعية الكبرى.

ففي الشدائد يظهر المعدن الإنساني الأصيل ويقدم الإنسان شاراته الأخوية

بعض صور التراحم في المجتمعات التقليدية

يعبّر المسيري في كتابه (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر) عن التراحمية من خلال مجموعة من الصور التي عاشها في دمنهور أو سواها من المجتمعات التقليدية وقارنها بصور أخرى عاشها في أمريكا، ليوضح القطبية في هذا الصراع الاجتماعي، مؤكدًا أن التراحمية هي صفة الإنسان وفطرته التي جبل عليها، وهذه بعض تلك الصور التي أوردها الكاتب في سياق المفهوم:
1- المجتمع التراحمي يولّد منذ الطفولة ثقةً بالنفس، والحرص على العلاقات الإنسانية والصداقات، لأن الإنسان فيها لا يكون فردانيًا، بل يترعرع في صميم العلاقات الكثيفة والحميمة داخل حاضنة الأسرة الممتدة.
2- الإنسان في المجتمع التراحمي كائنٌ حرٌ نبيل، له اعتباره ومكانته، فهو جزء من مكون اجتماعي، له دوره وله تأثيره، ومكانته محفوظة كإنسان، وليس كقيمة مادية مجردة.

3- للقيم في المجتمع التقليدي التراحمي مساحةٌ واسعةٌ يتميز بها عن المجتمع الحديث التعاقدي.

4- تتجلى صور التراحم في المناسبات المختلفة من مثل الأعراس؛ إذا يساهم أفراد الأسرة الممتدة في دعم العروس بمبالغ نقدية مخفية، ومراسم الموت والمرض (عيادة المريض من مظاهر التراحم، المشاركة في الجنائز والتعزية)، وإدراك أهمية الوقوف إلى جانب الآخرين وتحقيق الرضا الذاتي. ففي الشدائد يظهر المعدن الإنساني الأصيل ويقدم الإنسان شاراته الأخوية.

5- كذلك تتجلى مظاهر التراحم في الكوارث الطبيعية (العواصف الثلجية، السيول، الزلازل…) إذ يسقط التعاقد ويظهر جوهر الإنسان التراحمي.
6- في المجتمع التراحمي هناك زكاة المال التي توزع على الفقراء، وزكاة الفطر والكفارات والصدقات. هناك تكافل اجتماعي يضمن حياة الفقراء، الأمر المفقود في المجتمع الحداثي.

 7- حين يتجاوز الأبناء سن الثامنة عشرة لا يتملص الأهل عن مسؤولية الاعتناء بهم، من التربية إلى المسكن والمأكل إلى الزيجة، بينما يفقد الأبناء هذه الحقوق في المجتمعات الحديثة.

8- بالمقابل في المجتمع التراحمي يحتفظ الأبوان بالمكانة الرفيعة وهما يبلغان الكبر، ويدرك الأبناء واجب الاعتناء بهما والثواب الذي يحصلون عليه.

9- كما تتمايز صور التعاقدية والتراحمية في مجال الأعمال، بين رب العمل والعمال، فأسلوب الحياة في المجتمعات التقليدية واحد بالنسبة لأصحاب العمل والعمال، من المأكل والملبس والمناسبات وغيرها.

ولعلّ هذا المثال الذي يرويه المسيري جدير بالذكر في هذا السياق:

 «كنتُ ألاحظ علاقة والدي بالعمال داخل متجرنا وبكل من يعملون عندنا. كان والدي ولا شك هو صاحب العمل الذي يدفع لهم أجورهم، يقتر ويغدق عليهم حسبما يراه هو مناسبًا، كانت تقلل من حدتهما العلاقات التقليدية التراحمية والواجبات الاجتماعية والأخلاقية الملقاة على عاتق والدي بحسبانه (معلم كبير) وصاحب عمل.

وأسلوب حياة العمال وصاحب العمل كان أسلوبًا واحدًا، الأعياد هي هي، والأحزان هي هي، واللغة هي هي، وطريقة الطعام هي هي. جميعهم كانوا يحتفلون بمولد النبي ولا يحتفلون بأعياد الميلاد أو رأس السنة. جميعهم كانوا يلبسون بنفس الطريقة (فالملابس الغربية كانت لا تزال هامشية)، وجميعهم كانوا يصلّون معًا ويعملون معًا ويقضون أوقات فراغهم معًا، وكان أولاد التجار والعمال والموظفين ينفضون عن أنفسهم انتماءاتهم الطبقية بعد الظهيرة ليشتركوا معًا في اللعب، فلم تكن اللعب الإلكترونية الحديثة قد ظهرت بعد. وكان يُعاد تشكيل الهرم الحاكم حسب المهارات الشخصية. فبرغم أنني كنت ابن الحاج محمد المسيري الشهير بالحصافي إلا أنني كنت خائبا، أفشل دائما في أن أطير طائرتي الورقية، ولذا كان عليّ أن ألجأ لعمال محل والدي كي يساعدوني»1

هل المجتمعات التقليدية خالية من التعاقد؟

يعتبر المسيري أن نموذج التعاقد والصراع زحف نحو المجتمعات التقليدية ويكاد يسيطر عليها. وهذه المجتمعات بطبيعة الحال مدنية وريفية، فإن كانت مظاهر التراحم ما تزال واضحة في الأرياف فإنها تكاد تكون نادرة في المدن الكبيرة التي صار يعيش فيها الإنسان ثنائية حادة ما بين التعاقدية في الحياة العامة على مستوى النموذج المهيمن والتراحمية في الحياة الخاصة على مستوى الممارسة الشخصية. وتزداد هذه الثنائية حدةً حينما يكون هذا الإنسان قادمًا من بيئة ريفية تراحمية. كما أن الكثيرين عاشوا انتقالًا من التراحمي إلى التعاقدي.

ولا تغيب التعاقدية عن المجتمعات التقليدية؛ بل إّن بعض صورها تبدو ضرورية في الحفاظ على الحقوق والواجبات، وفي تسيير أمور العمل، وتختلط التراحمية بالتعاقدية بنسب متفاوتة فيضرب المسيري أمثلة عديدة عن قيام أصحاب العمل بتوظيف التراحمية من أجل توسيع أرباحهم، كما يمكن توظيفها لتحقيق أهداف أخرى.

بعض صور التعاقدية في مجتمعاتنا

يدل المسيري على بعض مظاهر التعاقد التي اكتسحت مجتمعاتنا التقليدية في زمانه، وقد استشرت بصور أوسع بكثير في هذه الايام ومن هذه الصور:

  • البيع والشراء هو من الأنشطة الإنسانية الاقتصادية التي تتراوح بين التعاقدية والتراحمية، ففي حين يحرص التاجر على زيادة أرباحه بعقد الصفقات مستخدمًا كل أساليب التسويق مضيفًا إليها تشويه الحقائق والأيمان المغلظة، ويدخل في علاقات اقتصادية صراعية تعاقدية تنافسية حادة حيث يتربص الإنسان بأخيه الإنسان، لكنه بعد ذلك يتناول الطعام مع منافسيه ويظهر كرمه الإنساني فيحل التراحم بدل التعاقد، ويصبح هم كل واحد من هؤلاء التجار المتنافسين هو إظهار كرمه وأريحيته في النفقة على الآخرين، ويبدو هذا الفعل كمحاولة لتأكيد التراحم الإنساني وتضميد الجروح بعد الصراع التعاقدي.
    وفي الماضي لم تكن النقود تشكل دورًا أساسيًا في التعاقد، وكانت المبادلات التجارية تتم بالسلع. فلم يكن يُنظر للبيع والشراء على أنه نشاط اقتصادي بحت، والتزام تحصيل الربح لم يكن على حساب القيم. وكان الاحتكاك البشري والتراحم له الدور الأكبر في هذا النشاط.
  • مع ضمور الثقة وكلمة الشرف وأهمية السمعة صار التعاقد يفرض نفسه في أنشطة البيع والشراء، إذ بات من البلاهة عقد صفقة بدون عقد ذي بنود واضحة.
  • العقلية الصراعية التعاقدية تقوم بتقويض التراحم، بل وتوظفه، حين تُدخل عنصر الشفقة أو غيره من أجل إتمام صفقة.
  • اختلاط الاقتصادي بالأخلاق إيجابًا وسلبًا.
  • تحوّل الإنسان في المؤسسات إلى آلة لا تجيد التعامل الإنساني بقدر ما تتقمص دور الآلة.
  • كجزء من عملية التحديث امتدت المؤسسات اللاشخصية إلى عالمنا، وأضيفت إلى التراث البيروقراطي الطويل، وهذه المؤسسات قائمة على التعاقدية المجردة.
  • يعتبر المسيري فيما يخص الهدية أننا تركنا رؤيتنا للعالم وتبنينا الرؤية الغربية، حين نقوم بفض غلافها وعرضها لمعرفة قيمتها.

ثانيًا- التعاقدية

فإنسان الحداثة يرى خلاصه في السعي الدائم إلى اللذة المباشرة، وتكون السلعة أيقونته الكبرى.

يعرف المسيري التعاقد بأنه تعاقدٌ مادي بين أشياء أو بين بشر بغرض تحقيق المنفعة أو اللذة، فالعلاقةُ مبنية على المنفعة واللذة وروح المنافسة، وهو نموذجٌ طاغٍ في المجتمعات الحديثة التي يكتسحها (التشيؤ)، وهذا مصطلح قريب من مصطلح التسلع، ويعبران عن معنى التحول إلى شيء أو إلى سلعة، بالخروج من المفهوم الإنساني التراحمي. لذلك يعتبر المسيري بأن التعاقدية تقوّض العلاقات الإنسانية الحميمة. فلا يؤدي لك أحدٌ خدمةً ما بلا مقابل. ويرتبط التعاقد بمفهوم الأسر النووية الصغيرة المرتبطة بدورها بالمدن وبظروف الاستهلاك والسلع والفردانية، حيث يحافظ الإنسان الحداثي على شعائر التعاقد ويحرص على دوام استمرارها كي يسود النموذج ويؤكد نفسه فيترسخ في كل العلاقات، حتى في علاقة الآباء بأبنائهم، والعلاقة بين الإخوة، فيكون كل شيء بمقابل، ولا يوجد شيء بلا مقابل.

فإنسان الحداثة يرى خلاصه في السعي الدائم إلى اللذة المباشرة، وتكون السلعة أيقونته الكبرى.

وهكذا يترجم التشيؤ نفسه إلى تسلّع، ومن ثم تصبح عملية تبادل السلع هي النموذج الكامن في رؤية الإنسان للكون ولِذاته، ولعلاقاته مع الآخرين. ويكون التعاقد هو الحالة الطبيعية للتعامل مع الآخر. فيكون من البداهة فضّ غلاف الهدية وعرضها.

من صور التعاقدية

  • يروي المسيري قصةً طريفة جرت معه حين كان يمشي مع أخته في إحدى مدن أمريكا وقد نال منها العطش فطلبت ماءً من سيدة تقف أمام منزلها–الأمر الذي يمكن أن تفعله لو كانت في مصر- فأجابت المرأة متجهمةً: لماذا عليّ أن أعطيك ماءً؟
    وقد فسّر لها المسيري هذه الإجابة المنطقية في إطار التعاقد والنماذج الرياضية المادية، فهذه السيدة رفضت أن تعطيها ماءً لأنه لا يوجد عقدٌ ينص على ذلك، ولا توجد أيُّ فائدة تعود عليها من هذا الفعل.
  • وعَودًا على التفاصيل المتعلقة بالهدية والتي تخرجها من طابعها التراحمي إلى التعاقدية. يوضح المسيري أن الهدية كانت بغرض المحبة (تهادوا تحابوا) في المجتمعات الملتزمة التي تفوح منها رائحة الإسلام فإنها في المجتمعات الحديثة تكتسي بلبوس التعاقدية، لذلك يجري عرضها والتعرف على قيمتها حتى يسهل التبادل. ففض غلاف الهدية وعرضها يعني تحويلها من قيمة إنسانية إلى قيمة مادية، تحويلها من الكيف إلى الكم. إخراجها من عالم التراحم إلى عالم التعاقد.
  • دعوة العشاء تقابلها دعوة عشاء، والهدية تقابلها هدية وهكذا. لا يوجد شيء بلا مقابل.
  • اشتراك الأصدقاء في دفع فاتورة الطعام.
  • لا أحد يمكن أن يدفع عنك أجرة الحافلة في منظومة التعاقد.
  • تعمّق شركات التأمين من الاتجاه التعاقدي، ويتجلى ذلك في التأمين ضد الحوادث، حيث يضطر المصاب لرفع قضية ضد أقرب المقربين من أجل تغطية نفقات العلاج، أو نفقات إصلاح السيارة.
  • التعاقدية في حقوق النشر والملكية الفكرية، يروي المسيري أن أحد الأطباء النفسانيين أراد اقتباس الأثر (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا) لكنه راح يسأل عن حقوق النشر حتى لا يقع في ورطة تعاقدية.
  • المؤسسات في المجتمعات الحديثة هي كيانات مجردة لا شخصية لا تهتم بالأفراد أو الأخلاق وتتحرك كالوحش الكاسر أو كقوة من قوى الطبيعة. والمؤسسة تعترف بقيمة مطلقة واحدة فقط وهي المقدرة على البقاء، وهي قيمة تجبُّ أيّ حسابات إنسانية أو أخلاقية.

والمؤسسات لديها قوانين رأسمالية صارمة تهدف لتحقيق الربح تعاقديًا وحتى لو استخدمت أساليب ملتوية.

ويوضح المسيري أن الصور التي يذكرها عن المجتمع الأمريكي يجب ألا تفهم على أنّ كل المجتمع الأمريكي أو المجتمعات الحديثية هي تعاقدية، أو أن المجتمعات التقليدية كلها تراحمية. لأنّ تفاصيل الواقع متناثرة ومنفصلة الواحدة عن الأخرى. وإنما هي نماذج تحليلية كلية وحياة الأفراد أكثر تركيبًا وأكثر إنسانية من النموذج الإدراكي الحاكم. فالإنسان يحب ويكره في كل مكان، وتوجد في المجتمع الأمريكي جيوب تراحمية كثيرة لها رد فعل على التعاقدية تتجلى ببعض المظاهر التراحمية.

جوانب إيجابية في روح التعاقدية
وحتى لا تفهم التعاقدية بأنها شرٌ محض يشير المسيري إلى جوانب إيجابية عديدة تميز التعاقدية وهذه الجوانب لا تقتصر على المجتمعات الحديثة ذات النموذج الإدراكي التعاقدي الحاكم، ويذكر بعض هذه الجوانب كالآتي:

  • التعاقدية تضمن حقوق الإنسان.
  • التعاقدية تقلل من التوترات بين الافراد.
  • التعاقدية تحدد الحقوق والواجبات بدقة.

لكن هذه الإيجابيات تنصرف إلى رقعة الحياة العامة، أما الحياة الخاصة فلا بدّ أن تحتفظ لنفسها بقدر كبير من التراحمية.

ضحايا التعاقدية

تقضم التعاقدية العلاقات الإنسانية الحميمة، وتهمش القيم والجوانب الإنسانية في الإنسان، وتسعى إلى تشييئه وتحويله إلى سلعة في النموذج الإدراكي الحاكم، لكن البشر لديهم ردات فعل تجاهها، كما أنهم يحافظون على إنسانيتهم من خلال تشبثهم بالتراحم الذي يعطي لوجودهم معنى. لكنّ بعض النماذج خضعت للتعاقدية فتحولت إلى سلع أو إلى أشياء تباع وتشترى، وهي نماذج لا بّد وأنها تحنّ إلى إنسانيتها. ومن تلك الأمثلة:

  •  المشتركون في الإعلانات التجارية يبيعون أنفسهم لوقت محدد مقابل نقود.
  • اللاعبون الذين يباعون ويشرون ويلتزمون بشروط قاسية وفقًا لبنود الاتفاق والتعاقد، تصل إلى أخص خصوصياتهم.
  • الممثلات والممثلون الذين يلتزمون بشروط قاسية أيضًا تبقي على مظاهرهم.
  • الموظفون في الشركات الكبيرة التي تفرض شروطًا تعاقدية ونمطًا سلوكيًا يتواءم مع سياسة الشركة.

يقول المسيري: إن الحداثة ليست دائمًا شيئًا عظيمًا مثيرًا؛ بل هي ظاهرة لها جوانبها المظلمة التي تؤدي إلى تفكيك الإنسان لا إلى تحريره.
وعودًا على بدء فإن نموذجَي العلاقات التي ميز بينهما علماء الاجتماع الألمان (الجيسيلشافت Gesellschaft) و(الجماينشافت Gemeinschaft) يتداخلان مع بعضهما البعض في أغلب المجتمعات، وإن اتخذ أحد النموذجين صفة الطاغي وصار نموذجًا إدراكيًا، وهناك مجتمعات يصعب فيها تحقيق المشاعر التراحمية ومجتمعات أخرى يسهل فيها ذلك. فالمجتمعات الحديثة ليست كلها تعاقدية كما أنّ المجتمعات التقليدية ليست كلها تراحمية. إلا أنّ ركب الحداثة يقلص التراحمي على حساب التعاقدي ليحول الإنسان إلى ذئب يتربص بأخيه الإنسان، أو إلى آلة صماء بلا مشاعر وروح، وهذا أمر يهدد كينونة الإنسان. ولا بدّ أن الإنسان يدرك هذا التهديد ويقاومه عبر الإلحاح على روحانيته وتراحمه.

وأخيرًا يشير المسيري إلى أن الأشكال الحضارية الحديثة- نماذج الحداثة- ليست هي الأشكال الوحيدة التي يمكن أن نعتمدها ونذعن لها، بل هناك أشكال أخرى قد تكون أكثر ثراءً وأكثر دفئاً، تحفظ للإنسان مكانته ودوره الحضاري في الحياة.


[1]  المسيري، عبد الوهاب، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2000

  1. مابين مزدوجين مقتبس من الدكتور عبد الوهاب المسيري. ↩︎
أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

أ. عماد كوسا

كاتب روائي وقصصي وناشط في مجال العمل الشبابي والمجتمعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى