المقالات

التعبد المقاصدي والبحث عن المعنى

مصعد المشفى…مستفز، أكاد أجزم أن الذي تولى تصميمه كان يبتلع معجون أسنان أو الزرنيخ أو أي مادة سامةٍ أخرى، لأنه ثمة غباء مكتسب  يحتاج إلى جهد كبير للوصول إليه…لا يمكن أن يكون كل هذا الفشل فطرياً!

لقد انتظرت المصعد يومها قرابة العشر دقائق ولم يكن بالإمكان أن أنزل مستخدماً الدرج، فقد كنت في الطابق الثاني عشر، وبينما أنا على حالتي تلك تذكرت الموقف الذي حدث معي يومها في المشفى، حيث دخلت قاعة المحاضرات وكنت أول الواصلين، فجلست في الصف الأول أنتظر وصول الأستاذ المحاضر.

ثم ما لبث أن جاءت طالبة -لا أذكر إن كانت ألقت السلام أم لا- وجلست في المقعد الأخير، للوهلة الأولى لم ألحظ وجودها، وبعد ذلك انتبهت أننا وحدنا في غرفةٍ مغلقة، وتذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، وحديث: لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة..

فأعملت عقلي – وهنا الطامة- وقلت لا أظن أن هذا الأمر ينطبق في حالتنا، والأيام تغيرت، ثم إنها لا تعبأ بي حقاً، وأنا غير مهم على الإطلاق، لا مال ولا جاه، وما لي وما لها، والناس هنا مختلفون متحضرون لا يتناولون هذه الأمور على هذه النحو، يا لك من رجلٍ شرقيٍّ متخلفٍ يا أيمن!

وفي تلك الأثناء دخل طلاب آخرون، فنسيت القصة….

 وبينما أنا في المصعد وهو يفتل بين الطوابق ويُنزل الركاب، كان هناك أنثى تُظهر ملامحُها أنها من كوماندوس أحد الحركات النسوية، هي تسمى أنثى مجازاً، كانت من أولئك اللواتي يتمنين أن يتعرضن للتحرش فيتحدثن للناس عن عدوانية الذكور، ولسوء الحظ بقينا وحدنا في المصعد قرابة نصف دقيقة، فغضضت بصري كما لم أغضه من قبل – ليس ورعاً بل خوفاً- وفي هذه الأثناء قلت في نفسي ماذا لو خرجت هذه المرأة وادعت أنني حاولت سرقتها، بل ماذا لو افترت عليَّ أمراً ما ولفقت لي تهمة أنا بريءٌ منها، ثم إن شهادة المرأة في هذا البلد الذي أعيش فيه تُقبل مطلقاً إذا ما كانت تخص أموراً من هذا القبيل، وعندها تذكرت الحديث النبوي المتعلق بخلوة الرجل والمرأة فأعملت عقلي مجدداً وقلت: إذن ليست العلة في تحريم الخلوة درء الشهوات وحسب، بل هناك أمورٌ أخرى كجبِّ الغيبة والافتراء وقطع أي احتمالٍ لقذف المحصنات، ولمتُ نفسي عندما خرجت من المصعد على اجتهادي الأول وعن بحثي المتهالك عن علةٍ مقنعة لكي أعمل بالحديث.

نعم، هناك مصيبةٌ رثّةٌ جديدةٌ تخلع جلدها كل حين وتكتسي غيره، وهو ما أسميه في هذه الحالة التعبد المقاصدي، وقبول الأمر الشرعي أو رفضه وفقاً للمصلحة القريبة المترتبة عليه في حال وصلنا إليها.

 إذ أن الإنسان مع تطور أدوات البحث العلمي، وازدهار العلوم، واكتشاف الكثير من الأمور الإعجازية التي أيدت ما أخبر به القرآن الكريم والسنة الشريفة، تكونت عنده نزعةٌ خفيةٌ للبحث والتنقيب وراء كل أمر، واستعرت في أحشائه شهوةٌ قويةٌ تطارد النفس البشرية لعقلنة كل عبادةٍ نقوم بها واستخلاص الحكمة المقنعة من ورائها…

 فوراء تحريم الخمر اكتشفنا التهاب الكبد والبنكرياس، ووراء الزنا ظهر الإيدز، ووراء العسل إعجاز دوائيٌ وسرٌ من أسرار الشفاء، وانتشرت تلك الموضة وغزت العقول مع انتشار علوم إعجاز القرآن، وخاصةً بما يتعلق بعلوم الفيزياء والفلك والطب التي دفعت بعض المتحمسين للشريعة إلى استنطاق الآثار والآيات في بعض الأحيان ما لا يمكن أن تنطق به، وإلى هنا يبقى الأمر مقبولاً-الى حد ما- يضيف فهماً أعمق لبعض النصوص والأحاديث المتعلقة بالأمور العلمية حتى تقتحم هذه النزعة خصوصية العلاقة بين المسلم وربه، وتتطفل على المساحة التعبدية فتشوب صفاءها، وتعكر نقاءها.

فعلى سبيل المثال، كلما اقترب شهر رمضان امتلأت مواقع التواصل بمنشورات تتعلق بالإعجاز الطبي وراء الصيام وفوائده الصحية، ولا زلت أذكر كيف تم تداول اكتشاف الطبيب الياباني الذي حصل على جائزة نوبل “يوشينوري أوسومي” عن اكتشافه خاصية الالتهام الذاتي[1] على أنها انتصار للصيام، وأن الله تعالى كما أراد تطهير أرواحنا، شاء أن يطهر أجسامنا من الخلايا التالفة ولذلك شرع الصيام، وبالمناسبة هناك الكثير من المنشورات التي تم افترائها على الباحث ودراسته فيما بعد، وعلى فرض أن كل ما ذكر صحيحاً ومثبتاً، فإنه لا يصح أن نربطها بالعبادة بشكل مباشر، ولا يصح أن نشجع الناس على الصيام إلا بالعلة التي ذكرها القرآن وهي التقوى، وإلا تشوشت النوايا واختلطت البواعث النفسية على العبادات.

وأيضا أذكر ذات مرة أنه خرج أحمد الشقيري بأحد حلقات برنامج خواطر وهو يحاول أن يثبت علمياً عبر تصوير الدماغ أن الصلاة بخشوع تزيد من الطاقة، على عكس الصلاة من دون خشوع – طبعاً قام بتجريب كلا الصلاتين بالحلقة- وأن الدماغ البشري تتغير تركيبته وتتبدل الأماكن النشطة فيه، وأن المنطقة المسؤولة عن الرحمة في الدماغ تنشطت في الصلاة الخاشعة، والأدهى من ذلك أنه بينما كان يخبر الباحثينَ أننا نقول في صلاتنا ” اهدنا الصراط المستقيم” أشارت الباحثة إلى مؤشر نقاط الطاقة في جسمه وكيف انتظم بشكل مستقيم يوازي العمود الفقري، وقد كان قبل الصلاة أعوجاً مائلاً، وشكراً لكم![2]

هذا الغباء المتألق تقف ورائه غَيرةٌ حضاريةٌ عميقةٌ تحاول لاهثةً أن تتلقف أي شيءٍ ملموس لتثبت للحضارات الاخرى أننا نسبقكم ولو كنا متأخرين عنكم حضارياً، وأننا نشبهكم كثيراً، وتعاليم ديننا تتفق مع نتائج علومكم، وأننا مستعدون أن نهذي في كل شيءٍ لكي نستطيع مجاراتكم، ولسان حالهم يقول بصوت شعبان عبد الرحيم في “هبطل السجاير”:

أنتو عندكو يوغا …. واحنا عنا صلاة

وانتو بتعملوا حمية… واحنا عنا صيام

هل قرأتها بالنغمة الأصلية؟ 

وعطفاً على بدء، وتأصيلاً للمسألة، يقول الإمام الشاطبي:

“الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف، التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني”[3]

فعلى الرغم من أننا ربما نتوصل لبعض الحكم المترتبة وراء بعض الأحكام إلا أن الأمر لن يكون مطرداً في كل شيء، فمثلاً ما المعنى أن يكون التيمم بالتراب مع العلم أنه لا يُرجى منه نظافة حسية؟! أو رجم إبليس ثلاثاً في كل مرة بسبع حصى؟، أو تقبيل الحجر الأسود…. وهناك الكثير من الأوامر والنواهي التي لن نجد وراءها مقاصد وحكماً مهما أطلنا البحث والتنقيب، لأن الله عز وجل أراد من المسلم إظهار العبودية المطلقة عند تنفيذها.

وكما أن فهم مقاصد الشريعة يعطي العبادة أبعاداً جديدة، ومعانٍ أخرى، فإن الإفراط في البحث عن الحكمة يجعل من الإنسان عبداً لعقله لا لربه

وكما أن فهم مقاصد الشريعة يعطي العبادة أبعاداً جديدة، ومعانٍ أخرى، فإن الإفراط في البحث عن الحكمة يجعل من الإنسان عبداً لعقله لا لربه، إذ بات سبب عبادته الاقتناع بالمقصد والمصلحة لا الامتثال للرب الآمر الناهي، وربما دفعه ذلك إلى اتباع الهوى والتخيُّر بين العبادات، وربما تجاهل أمراً حرمه الشارع لأنه لم يلتمس فيه المصلحة القريبة التي تعوَّد أن يجدها في باقي الأوامر، ولذلك لن تستغرب حينها عندما ترى أشخاصاً التزموا بالصلاة بنية التأمل والاسترخاء وجلب الطاقة.

لذلك ليس من الحكمة دعوة الناس للإسلام وتحبيبهم فيه من خلال هذا الخطاب الذي يعتمد على الاكتشافات العلمية الحديثة للتدليل على صحة القرآن وإثباته – وإن كان فيه خير وفائدة أحياناً- لأن القرآن أعلى من أن يدل على صدقه علم تجريبي، ثم إن هذه العلوم ليست ثابتة وهي متغيرة على مر العصور ، ثم إن عقولنا محدودةٌ لا يمكنها فهم الأشياء كلها بالعمق نفسه.

وكم رأينا في القرن الأخير متحمسين، ألغوا بعض الأحاديث الشريفة، وحاولوا تأويل الآيات لما يتوافق مع العلم الكوني الذي وصلوا إليه، وهم من فرط حماستهم نسوا أهم خصيصة من خصائص القرآن وهي أن القرآن ليس بكتاب علمي، ولا كتاب طب ولا فلك، وإنما هو كتاب تشريعي للدين الإسلامي، وتنفيذ ما فيه من أوامر مرجعه إلى الإيمان لا إلى البرهان، فلو ثبت علميا مثلاً أن في العسل ضررٌ على الإنسان أو أنه يعطل الخلايا عن عملها، لبقيت آية الشفاء ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) كما هي، بل ولبقي حكم شرب العسل كما هو، لأنه كلام الله الذي لا يقبل التحديث مثل باقي المراجع العلمية. (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)

لذلك لا بد من تدريب النفس على قبول النص الشرعي بشكل مطلق، والالتزام بالأوامر التعبدية منه سبحانه لأنه رب عظيم ونحن عبيد ضعفاء، والمحافظة على هذه المساحة نظيفة من تساؤلات العقل وشكوك النفس، وبعد أن تصفو العبودية يمكن أن تُدرس تلك المقاصد وتستعملَ في تأييد إعجاز الشريعة وشرفها…

تنبهتُ بعد هذا الشرود الطويل… فنظرت خلفي إلى المصعد البطيء وخرجت من المشفى ممتناً لهذه الأفكار التي قرأتَها الآن.


[1] هو آلية تدمير طبيعية تقوم فيها الخلايا في الجسم بتفكيك -وبصورة منظمة- المكونات غير الضرورية أو المعطوبة داخل الخلية، وتسمح بعملية تقويض منظم وإعادة تدوير مكونات الخلية، للمزيد حول الموضوع: https://www.youtube.com/watch?v=8Uu9feq0fR0&t=2912s

[2] رابط حلقة خواطر https://www.youtube.com/watch?v=51rBPBEafYs

[3] كتاب الموافقات للشاطبي

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

أ. أيمن عوض

كاتب مهتم بالفكر والأدب العربي

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى