إسلامية المعرفة
هل ينبغي أن تكون المعرفة إسلامية؟ وكيف تكون المعرفة إسلامية؟ وهل المعرفة غير الإسلامية قدمت منفعة للبشرية؟
يحاول هذا المقال أن يقدم أجوبة مستقاة من كتابٍ شهير للداعية محمد الغزالي بعنوان (تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل)[1] الذي يعتبره الكاتب محاسبةً نفسية لموقفنا من الحاضر والماضي، من أجل إصلاح المستقبل.
يتمحور الكتاب حول المسار الفكري في التراث الإسلامي مرتكزًا على مصدر المعرفة الإسلامية والعلم الإنساني ورجعه على حياة الإنسان، كما يتضمن بعض الحقائق التربوية، ومراجعات لموضوع الابتداع والتاريخ الإسلامي، والتفسير والسنة، وضرورة العمل الجاد من أجل إزالة الأغلفة التي تغطي الحقيقة العظمى، لتوضيح الصورة ومنع الغبش، ويلقي الغزالي بالمسؤولية على عاتق حملة الحق، وهي ذات المسؤولية التي يلخصها القرآن الكريم في الآية الكريمة ﴿أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾، لكن المعرفة التي يتحدث عنها الغزالي في كتابه آنف الذكر ليست من الوجهة الفلسفية من ناحية نظرياتها وماهيتها ومصادرها ومستوياتها، ومشكلة تحليل المعرفة وتفسيرها والاتجاهات الفكرية التي تتناول تلك المشكلات، بل يتناولها من وجهة أخرى ذات بعد شمولي، إذ يريد أن يبين لنا الأثر الذي تتركه المعرفة في تاريخ الأمم، بعد عرض مصادر المعرفة وشروطها التي تجعل منها نافعة متوافقة مع الفطرة البشرية والرسالة الإنسانية.
المعرفة الآدمية، ماذا تعلم آدم من ربه؟
كان آدم عليه السلام أول من نهل المعرفة وسخّرها لنفسه وبنيه، ولكنه نموذج منفرد من ناحية مصدر معرفته، إذ إنه تلقاها بشكل مباشر من ربه، وهي معرفة واسعة نال بها السبق والتميز حتى على الملائكة، وجعلته في موقع الحسد والغيرة والتحدي من إبليس. فماذا تعلم آدم؟ وما هي المعرفة التي اكتسبها؟
يعتبر الغزالي هذا النموذج المتفرد مرجعًا معرفيًا ينبغي علينا كأبناء آدم التأمل في الآيات القرآنية التي أشارت إلى المعرفة الآدمية، لنجيب من خلالها على الأسئلة آنفة الذكر، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[2] واشتمل هذا العلم على جانبين رئيسين:
- العلم بالأرض والحياة على ظهرها واستثارتها واتصال عمرانها واستكشاف قواها وأسرارها، “إن معرفة الحياة صنعةٌ إنسانيةٌ عامة، والتمكين في الأرض حقٌ لبني آدم كلهم، أما الجهل والعجز فعلل تعتري الآدمية تفقد بها شخصيتها وتقصر بها عن رسالتها، وما يكون الإنسان إنسانًا إذا توقف عقله عن الفكر، وأشبهت حواسه وجوارحه حواس الدواب وجوارحها في أكل ما تيسر، والعيش في نطاق غرائز بدائية”
- العلم بالدين الذي سينشره ويقيمه، والقيم الرفيعة التي سيعمر بها الأرض.
وهما جانبان مترابطان لا ينفك أحدهما عن الآخر في رحلة الحياة على الأرض وإعمارها بالقيم العليا التي بها تدوم حياة الإنسان بالشكل الذي أُريد له، وبالنمط الذي يواجه به التحدي الإبليسي.
﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ۞ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا ۞ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ۞ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾[3]
لقد تلقى آدم المعرفة التي ستمكنه من مواجهة إبليس في هذا التحدي، والتي ستحفظ له المكانة الرفيعة في الملأ الأعلى.
«الآدمية في كتابنا علمٌ عجزت عنه الملائكة وظفر به آدم وحده فاستحق الخلافة في الأرض، كما أوتي آدم عقلًا جوابًا في الآفاق يقدر به على تسخير عناصر الكون لنفسه، كما يقدر به على معرفة آيات الله في ملكوته. ودلالة هذا العالم على عظمة خالقه»
ونستطيع أن نفرز من هذه الدالة عدة نقاط توضح المعرفة الآدمية:
- رسالة آدم وبنيه على الأرض هي رحلة مستمرة من الجهل إلى المعرفة، وبهذه الرسالة تميز آدم عن الملائكة وبها استحق الخلافة.
- العلم الآدمي كان علمًا نظريًا تلاقح مع الواقع على الأرض- ساحة التجربة العملية- فنمت المعرفة بالعقل النشط الباحث عن أسباب العيش والتمكين وفهم أسرار الطبيعة وتسخيرها للإنسان.
- العقل الجواب في الآفاق يصل إلى آيات الله تعالى في ملكوته، فالكون دالٌ على خالقه.
- كان لا بدّ لآدم أن يعرق ويقلق ويذكر الله ويحترم أمره مهما كانت المغريات والمثبطات.
- إيمان الشهود عند آدم تحول في أبنائه إلى إيمان تفكير، إيمان بالغيب، تدعمه آيات الله في خلقه.
وآدم أوتي المعرفة فهو يبني وينشئ، فهذه رسالته على الأرض، ولم يستقم البناء إلا بترافق المعرفة بالكون مع المعرفة بدين الله تعالى، ولا يكون البناء سويًا إلا بترافق هذين العنصرين. وفي الجانب المقابل اتخذ إبليس لنفسه مهمة الهدم والتخريب، وهي مهمة ينقلها إلى أتباعه وأعوانه، فيكتسبون من أسباب القوة المادية ما يمكنهم من الهدم. وليس الذي يبني كالذي يهدم، وليست المعرفة المنتجة البانية كالمعرفة الهدامة.
مصدر المعرفة الإنسانية
يختلف الفلاسفة حول مصادر المعرفة وآليات تشكلها؛ ففريق يربطها بالإحساسات التي يتلقاها الإنسان عن طريق الحواس المختلفة، وفريق يربطها بالعمليات العقلية والمنهج الاستنباطي، وهناك من يعتبر أنّ الخبرة التي تجمع ما بين الإحساسات والمبادئ العقلية هي مصدر المعرفة، في حين يربطها فريق آخر بالحدس والبصيرة. وحصيلة ذلك أنّ المعرفة عملية معقدة يعتمد طرفٌ منها على نشاط الإنسان حسيًا وعقليًا وخبرة وبصيرة، والطرف الآخر على المحيط الذي يعيش فيه ويجوب فيه إحساساته وأفكاره.
ولا يلتفت الغزالي في كتابه المذكور إلى هذه العمليات، لكنه يريد أن يدلل على المعرفة والعلوم المحيطة بنا والتي لا تحتاج منا سوى إعمال الفكر.
إنه يعتبر أنّ مصدر العلم الإنساني هو الكون، فالعلم بالكون هو صميم الإنسانية، وهو الذي يعزز لدى الإنسان ارتباطه بخالقه فيقوي يقينه، ويسوي أمور دينه، وهو الذي يمكنه من امتلاك أسباب القوة فيحفظ بها سيرورة حياته ورسالته. والقرآن الكريم يجلي هذه المعاني ويدفع نحو التفكر في الكون واكتساب علومه لأسباب ثلاثة يصنفها الغزالي كما يلي:
- دلالته على الله تعالى
فالتفكر في ملكوت الله وفي مخلوقاته هو وسيلة الإيمان وزيادته، ونجد في القرآن الكريم الدعوة المتكررة للتفكر في هذه الآيات التي أودعها كونه الواسع.
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [4]
﴿إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾[5]
ونحو ذلك من الآيات القرآنية التي تحث الإنسان على التفكر في آيات الله تعالى ومخلوقاته، وفي نفسه ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾[6]، وما أحوجنا إلى التفكر في هذه الدلالات العلمية الراسخة في عصر طغت عليه المادية الجوفاء وسرت بين الناس شبهات إيمانية شتى.
وما أحوجنا إلى التفكر في هذه الدلالات العلمية الراسخة في عصر طغت عليه المادية الجوفاء وسرت بين الناس شبهات إيمانية شتى.
2. ارتباط الحياة الإنسانية بهذا الكون
لا تنفك أسباب سرمدية الحياة عن ضرورة فهم الكون، فكل حاجيات الإنسان موجودة في الأرض وهي جزء محدود من عالم ممدود، ليس فقط الحاجيات الأساسية من طعام وشراب ولباس، وإنما أيضًا كل الشروط والقوانين الكونية والحيوية التي تضمن بقاءه. ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا ۞ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ۞ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ۞ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾[7]
فالله تعالى بسط الأرض وأودع فيها منافعها، وما على الإنسان إلا أن يسعى لكسب هذه المنافع الظاهرة، وأن يكد ويجهد لاستكشاف ما خفي منها. وفهم القوانين الطبيعية التي تنظم الكون داخلة في هذه المنافع، وليست الأرض وحسب، بل السماء وما فيها من نجوم وأقمار، وما بين السماء والأرض، كل ذلك مسخر للإنسان، وينضوي على منافع جمة بعضها ظاهر للجميع، وبعضها تظهر لمثل خبير، يقول تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ﴾.
3. حماية الحقوق والحقائق
«إن الخبرة بالدنيا أقصر طريق لخدمة الدين» إذا كنا أصحاب رسالة وتقع على عاتقنا مهمة خدمتها وحمايتها فتلزمنا المعرفة بأسرار الأرض والكون وثرواته ومقدراته وقوانينه التي بها نمتلك مصادر القوة، ونتمكن من صنع السلاح الذي نحمي به الحقوق والحقائق.
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[8]
فلقد بيّن الله تعالى للناس شرعته ومنهاجه على الأرض، وبين الرسالة المتوجبة على الناس.
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلْغَيْبِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾[9]
فالرسالة هي (ليقوم الناس بالقسط)
فالرسالة هي (ليقوم الناس بالقسط)، وينبغي أن تملك الرسالة قوةً تمكنها وتصونها في الصراع مع الباطل، والحديد في الآية الكريمة بما له من بأس ومنافع هي الدلالة الحقيقية والرمزية لتلك القوة، ليبقي المؤثر الأخير في المعادلة فتكون لها مخرجات أو لا تكون، وهم الناس بعد أن مكنهم الله تعالى من المُدخلين (الرسالة والبأس)، فهل سينتصرون لدين الله أم يتخاذلون؟
أَليست الدلالة واضحة أنّ الله تعالى ينير السبيل أمام عباده الراغبين في نصرته. فلا يكفي أن يكونوا أصحاب رسالة، ولكن ينبغي أيضًا أن يجدّوا في امتلاك الأدوات التي تمكنهم من حمايتها ونشرها، وليس الحديد وحده من أسباب القوة، بل هيأ الله تعالى لعباده سوى الحديد ما لا يحصى.
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِۦ ثَمَرَٰتٍۢ مُّخْتَلِفًا أَلْوَٰنُهَا ۚ وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌۢ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾[10]
فأصحاب العقل هم مستخرجو الحق من ثنايا الكون الكبير، وأسباب القوة في الزراعة وتطويرها، في الصناعة وتطويرها، في اكتشاف المختلف أنواعه من طيبات ما رقنا الله، ومن عجائب المواد الطبيعية التي أودعها الله في أرضه. فالجبال المكونة من أنواع متفرقة من الصخور خزان لا ينضب لجميع العناصر الكيميائية والفلزات التي يكتشف الإنسان منافعها حينًا بعد آخر، ويدخلها في كل الصناعات.
ويسأل الغزالي: فماذا فعلت أمتنا؟
في حين اشتغل الغرب باستخراج المنافع من ثنايا الكون بماذا اشتغلنا نحن؟
- بالجدل المحموم في غيبيات نُهينا عن التقعر فيها وتجسيم الخلاف الفقهي
- بالانصراف عن شؤون الدنيا، انصرافَ بلادة وغباء، وليس تجردًا لتقوى.
فوقعت أمورنا بين أيدي أقزام متعالمين متطاولين يقول واحدهم ﴿مَآ أُرِيكُمْ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ﴾[11]
التلازم بين المعرفة والأخلاق
- المعرفة الدينية والأخلاق
لقد أكد القرآن الكريم أنّ تزكية النفس الإنسانية هي الغاية من شتى التكاليف، والتركية المنشودة هي تصفية المعدن الإنساني من شوائبه، وجعل الغرائز كلها تحت رقابة العقل المؤمن. ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[12]
«إنه لا بدّ مع المعرفة الواسعة من ضميمة أخرى، هي النية الشريفة، وإخلاص القلب لله. وقد أفاض علماؤنا الأولون في أن النجاة تعتمد على الفقه ـ وهو المعرفة الصحيحة للحكم ـ وعلى التجرد وهو البراءة من المآرب الشخصية والتمحض لله سبحانه ـ ويظهر أن الجمع بين الأمرين يحتاج إلى جهود مضنية»
والله يقدم عبدًا منكسرًا يرنو إليه بأمل على عبدٍ شامخ ينظر إلى نفسه بإعجاب. هل حدة الذكاء وسعة العلم تغنيان عن طيب النفس وشرف الخلق؟ كلا.
وعندما يكون الدينُ مراسمَ لفكر سطحي فإنه يتحول إلى أشكالٍ وترانيم، وعندما يكون ذكاءً مع شحّ مطاع وهوى متبع فإنه يتحول إلى مصيدة للمغانم والمآرب. إنّ الدين تواضعٌ ودماثة أخلاق. وإذا لم يكن الدين كبحًا للهوى وامتلاكًا للطبع فلا خير فيه ولا جدوى منه. فهذا هو لقمان حين ينصح ابنه يمزج ما بين حسن معاملة الله وحسن معاملة الناس.
﴿يَٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ ۞ وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٍ فَخُور ۞ وَٱقۡصِدۡ فِي مَشۡيِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِيرِ﴾[13]
والحل الفذ الذي يطرحه الغزالي هو أن نعود إلى حقيقة الدين فنوثق علاقاتنا بربنا ونحسن الصلاة له والخشوع بين يديه، ونجعل علاقاتنا بالناس محكومة بمعالم التقوى وخشية الله والتأهب للقائه.
فهل أنصفت دار الإسلام الوحي الذي تشرفت به وهل أحسنت القيام عليه؟
ولماذا تغيب الأخلاق في محافل الخلافات المذهبية؟ «فهل المولعون بقضايا الخلاف صغراها وكبراها والذين يحشدون أفكارهم ومشاعرهم وأوقاتهم للانتصار فيها، هل هم مخلصون للقضايا المتفق عليها؟»
والحل الفذ الذي يطرحه الغزالي هو أن نعود إلى حقيقة الدين فنوثق علاقاتنا بربنا ونحسن الصلاة له والخشوع بين يديه، ونجعل علاقاتنا بالناس محكومة بمعالم التقوى وخشية الله والتأهب للقائه.
2. المعرفة الدنيوية والأخلاق
إن العالَم البعيد عن الوحي لم يقف مكتوف الأيدي، بل خطّ لنفسه مناهج من عنده وسار عليها، وجليّ أن هذا العالم انتهج المادية البحتة وربط كلّ شيء بالطبيعة فسبر أغوار الكون وارتقى كثيرًا في ميادين المعرفة الدنيوية، حتى وصل اليوم إلى تسخير الذكاء الاصطناعي في محافل شتى، ولكن هل كان ذلك تقدمًا إنسانيًا حقًا؟
«إن الأثرة الفردية والجماعية ضربت مع هذا التقدم وتفاحشت الشهوات والمظالم، وظهر الفساد فى البر والبحر، واتسعت دائرة الإلحاد والتدين الجاهل»
﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾[14]
لا قيمة للعلم الواسع إذا لم تصحبه عبودية تامة لله تعالى. والنفس الصغيرة لا تزيدها المعرفة الكبيرة إلا قدرة على الأذى وطاقة على الإساءة، فالمعرفة الدنيوية أنتجت قدرة هائلة على التدمير.
وأخطأ سقراط عندما قال: الفضيلة المعرفة! ما قيمة المعرفة عند الذين تقودهم شهواتهم؟. الفضيلة هي المعرفة حقًا عندما تكون المعرفة باعثة على إرضاء الله وفعل الخير ونصرة الحق ومحق الباطل وتحسين الحسن وتقبيح القبيح.
فهذا هو ميزان المعرفة الدنيوية، أما ميزان المعرفة الدينية فهو أن نجعل أخلاقنا محكومة بتعاليم الدين وبذلك يتحقق التلازم المنطقي بين المعرفة والأخلاق، وتكون المعرفة فضيلة تستند إلى أسها القديم حين علم الله تعالى آدم الأسماء كلها، وكانت معرفة آدم تجمع العلم بالأرض ومقدراتها وأسباب عمارتها وبين العلم بالدين الذي سيقيمه ليحكم به حياة الإنسان. وهي رسالة الله لعباده أن يتفكروا في الكون ليروا آيات خالقهم، فإنها ستوثق إيمانهم وترشدهم إلى مقومات عيشهم وتمكنهم من أسباب القوة التي تمكنهم من صون رسالتهم ونشرها.
إنها المعرفة المتكاملة التي تنهض بالإنسان جسمًا وروحًا ليدنو من المقام الذي بلغه آدم بين الملائكة، وينتصر في التحدي مع إبليس وأعوانه. من أجل ذلك ينبغي أن تكون المعرفة إسلامية.
[1] الغزالي، محمد، تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل، دار الشروق، القاهرة 1991
[2] البقرة (31)
[3] الإسراء (62-65)
[4] الروم (8)
[5] آل عمران (190)
[6] الذاريات (21)
[7] النازعات (30-33)
[8] الحديد (25)
[9] الحديد (25)
[10] فاطر (27)
[11] غافر (29)
[12] آل عمران (159)
[13] لقمان (17-19)
[14] الجاثية (23)