المقالات

مرتكزات الهوية

لقد بات موضوع الهوية في العقود الأخيرة من أهم المواضيع المتداولة لدى المفكرين حول العالم، وذلك بسبب التهديدات المتجددة التي تواجه الهويات، ففي ظل انتشار العولمة، تعرضت الهويات لانتهاك الخصوصية، وأصبحت أمام عملية صهر واستبدال بهوية مادية واحدة، يمكن الاصطلاح عليها بـ الهوية العولمية. وربما من الأسباب الأساسية لاستهداف الهويات الخاصة، أن الهوية تؤثر بشكل كبير على تصرفات الأفراد ضمن المجتمع، ما يعني أن المجتمعات تختلف باختلاف الهويات، ولما كان النظام العالمي الجديد يسعى إلى بناء مجتمع عالمي موحد يتجاوز الحدود الخاصة للأمم كان لا بد من بناء أو تأسيس هوية عولمية مشتركة، يتم من خلالها ضبط الشعوب في نسق واحد، وذلك عبر تحديد وتوحيد مهام وتحركات وتصرفات الإنسان انطلاقا من هوية واحدة، ولتخفيف آثار الحرب التي تقودها القوى الرأسمالية على الهوية، لابد لنا من معرفة مرتكزاتها.

الدين

يعد الدين أحد المصادر الأساسية التي تشكل هوية المجتمع، إذ يقدم مجموعة من القيم والمبادئ الكبرى، والتي تشكل بدورها المنظومة الأخلاقية في هوية الأمة، وتعمل كبوصلة توجه مسارها وتتحرك من خلالها، كما يقدم الدين إجابات شاملة على الأسئلة الوجودية التي يطرحها الإنسان، فيمنح الأفراد أسبابا قوية للانتماء له، ويربطهم بمرجع روحي جامع، الأمر الذي يجعل الأفراد مرتبطين روحيا فيما بينهم، وهنا تكمن قوة الدين كمحرك أساسي للهوية، وعقد يجمع شتات الأفراد ويوحد توجهاتهم ومساراتهم.

الثقافة

هي في الغالب ما تتسم بالخصوصيات التي تميز أمة عن غيرها، ولا شك أن حجم تلك المنتجات يدل على حجم تلك الأمة ومدى قوتها وعمقها الحضاري.

هذه الكلمة توقف عندها الكثير من الفلاسفة والمفكرين بسبب ما فيها من التعقيد والتركيب، قال ريموند ويليامز: “تمنيت لو أنني لم أسمع بهذه الكلمة اللعينة – الثقافة – ولم أصادفها في حياتي”. حيث يراد من هذه الكلمة التعبير عن مجموعة واسعة من الأفكار والمفاهيم، لذلك كانت جميع التعريفات التي طرحها المفكرون لهذه الكلمة تعريفات مركبة، فعرفها ادوارد تايلور في كتابه “الثقافة البدائية” بأنها: “ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع”، فهذا التعريف الذي يعتبر واحدا من أشمل التعريفات للثقافة، يشير إلى أن الأخيرة تحتوي على مجموعة من المنتجات الأساسية التي تساهم في تشكيل الهوية الجامعة لدى الأمم، وهي في الغالب ما تتسم بالخصوصيات التي تميز أمة عن غيرها، ولا شك أن حجم تلك المنتجات يدل على حجم تلك الأمة ومدى قوتها وعمقها الحضاري.

التاريخ

يقول ابن خلدون: “اعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو يُوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء”. لو قابلنا شعبا ليس له تاريخ لكانت أول كلمة قلناها عنه: إنه شعب بلا هوية، ولو حَدَثَ استعمار لشعب معين، أو حَدَثٌ تاريخي كبير أثر على الشعب، نلاحظ أن هذا الحدث في الغالب يؤثر على هوية ذلك الشعب، وغالبا ما يظهر ذلك الأثر بعد عقود من الزمن. يمنح التاريخُ الأممَ بطاقة تعريفية لإبرازها أمام الأمم الأخرى، كما يتيح للأمة أن تعرف نفسها أكثر، ويمنحها أرضا خصبة لبناء المستقبل، فالحروب والصراعات والإنجازات والابتكارات التي قامت بها الأمة على مدار التاريخ تمنح الأفراد قصة مشتركة يقوم بروايتها الآباء للأبناء، حتى تصبح تلك القصة بمثابة هوية مشتركة تجمع بينهم.

اللغة

اللغة أساس كل ما ذكرناه، فلو لم يكن هناك لغة لما كان هناك إنتاج ثقافي ولا تاريخ ولا فكرة، فاللغة هي الأساس الذي يميز الإنسان عن غيره من الكائنات، يقول زهير بن أبي سلمى: 

لسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ *** فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ

فاللغة هي أداة التواصل، إذ تساعد الفرد على التواصل مع غيره في مجتمع يشاركه نفس اللغة، وهذا يعني تبادل الأفكار والمشاعر بين الأفراد، وبالتالي تَشَكُّلُ نوع من الرابط الهوياتي بينهم، وفي حالتنا اللغة العربية تتسم بخصوصيات إضافية بالنسبة لنا، فهي من جهة لغة القرآن، قال تعالى: “إنا أنزلناه قرآنا عربيا”، وهذه ميزة تفردت بها اللغة العربية، حيث حازت نوعا من القداسة والثناء الإلهي، وهذا بلا شك ينعكس إيجابا على قوة هوية الأمة. ومن جهة أخرى فهي تتسم بغزارة المفردات، ومستوى عال من التقعيد والترتيب والتبويب.

الخاتمة

فنجد مثلاً أن الهوية العربية والإسلامية من أكثر الهويات وضوحًا وزخمًا، بل ربما هي الوحيدة التي تظهر فيها تلك المرتكزات بهذا الزخم، كالركيزة الدينية، والركيزة التاريخية، والركيزة الثقافية، وحتى الركيزة اللغوية.

المرتكزات التي ذكرت في هذا المقال هي مرتكزات أساسية تتوفر عادة في أي هوية، ولكن كلما كانت هذه المرتكزات أكثر وضوحًا، وأشد زخمًا، كانت الهوية أقوى وأبقى، فنجد مثلاً أن الهوية العربية والإسلامية من أكثر الهويات وضوحًا وزخمًا، بل ربما هي الوحيدة التي تظهر فيها تلك المرتكزات بهذا الزخم، كالركيزة الدينية، والركيزة التاريخية، والركيزة الثقافية، وحتى الركيزة اللغوية.

أ. بكر علوش

طالب في تخصص العلاقات الدولية في جامعة سكاريا صانع محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي في مجال الفكر والسياسة وحاصل على دبلوم في الإدارة وآخر في الإعلام.

أ. بكر علوش

طالب في تخصص العلاقات الدولية في جامعة سكاريا صانع محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي في… المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى