المقالات

معنى الحياة.. بين القيم الغربية والقرآن الكريم.

في ظاهرة تصاعدت في العقدين الأخيرين، بات من الشائع رؤية المراهقين وكثير من الشباب -وربما بعض كبار السن- يتذمّرون من كل شيء حولهم، بدءًا من طبيعة الحياة ووجودهم فيها، وصولاً إلى الكسل المفرِط وصب جام الغضب السريع لنقص خدمةٍ ما أو ضياع ملبس أو مأكل ومشرب ليس ذا أهمية في حد ذاته أو محيطه.

قد يُطلق على هذه الظاهرة مسمّى الهشاشة النفسية، أو الشعور بخواء المعنى، وهي ظاهرة ذات أبعاد نفسية وروحية، حيث تطغى مشاعر الإحساس بأن الإنسان ضحية لكل شيء، وتُجرح مشاعره لأقل شيء، وهكذا ينشأ جيل كامل فاقدًا للإحساس بقيمة الحياة من جهة، ومقدسًا في القيم الاستهلاكية فيها من جهة أخرى..

لنتوقف لحظة!

خصص الفيلسوف الفرنسي ميشيل لكروا كتابه “عبادة المشاعر” لتسليط الضوء على الحالة الحلزونية -كما يسميها- من المشاعر المتصادمة والمتناقضة في عاطفة الإنسانية المعاصر، فالإنسان المعاصر ليس “بدون مشاعر في هذا الزمن”، بل إنه لشدة تلاعب المشاعر فيه صار يواجه قِيَم العالم الحديث بتوقّعات حلزونية مصطَنعة، فتتراكم الأوجاع ومشاعر الغضب والتعب واليأس، ويتحوّل الإنسان من خلالها إلى بالون يائس من المشاعر المتناقضة، ينتفخ باستمرار دون توقف، ولا أحد يعرف متى ينفجر أو إذا ما كان بإمكانه الاستمرار تحت هذا الضغط إلى ما لا نهاية.

يفكك “لكروا” هذه الحالة، ويصف أسبابها وتجلياتها والطريقة المثلى للتعامل معها -بحسب خبرته- على مدار صفحات كتابه، وفي هذا الإطار، يصف هذه الحالة المعاصرة العامة بأنها “كوجيتو” جديد، فإذا كان ديكارت شرح برهنته على الوجود بأنه مفكّر -أنا أفكّر إذن أنا موجود- فإن الإنسان المعاصر لا يبرهن على وجوده إلا من خلال مشاعره، فيغدو الشعار -أنا أشعر إذن أنا موجود- وبالتالي فإن التحقق من وعي الإنسان بذاته وما حوله من قِيَم ومعاني لا تنطلق من نقطة الوعي المجرد، وإنما من بوتقة شعوره بما في داخله، وبالتالي زادت صعوبة الوصول إلى نمط منضبط من الأحكام، وإنما سيل بشري متناقض الانفعالات والأحاسيس، مع تأكيده على أن الحرص على ما هو ذاتي فينا يتماشى مع روح عصرنا؛ فعبادة المشاعر تقلب الترتيب الطبيعي لنظر الإنسان في القيم المحيطة به، وتُزيح الانضباط العقلي لتحلّ مكانه قيم الشاعرية و”فوضى الحواس”.

يشير المؤلف إلى أن هذا التحول في النظر إلى الذات خصوصًا، والحياة عمومًا، تكونت في سياقين أساسيين، اجتماعي أولاً حيث فرضت قواعد “الاتيكيت” في أوروبا العصور الوسطى وعصر النهضة والتنوير حجبًا كثيفة أمام إظهار مختلف أنواع المشاعر، وفي عصرنا الحديث تمنع الرأسمالية من إظهار شعور الغضب -لما له من أثر سلبيٍّ في سياق المنافع المادّية والتعامل مع الزبائن خصوصًا- وسياق مرتبط بعلم النفس ثانيًا، حيث تنامت سطوة مدارس العلاج النفسي بالمعنى وتحسين المشاعر، إلا أن معظم هذه العلاجات لم تتوجّه لقيم كلية كبرى وإنما إلى تكتيكات جزئية وتقنيات حول الوعي النفسي بالذات ومعالجة التنفّس والتحكم بالمشاعر المكبوتة إلخ.

يتوسع لكروا في كتابه لتسليط الضوء على مظاهر الاحتفال الجماعية الصاخبة، وظاهرة فقدان الإحساس بالقيم والمشاعر الضرورية وانتشار المشاعر السلبية، وفقر الحياة الروحية، ودور الدراسات العصبية المعاصرة في تكريس هذه الأنماط من “عبادة المشاعر” ليقترح في الختام بديلاً يدور -في جوهر الأمر- حول تعزيز قيمة الإيمان بالغايات الكبرى، وذلك من خلال تبنّي الإنسان أسلوب التأمل وتخفيف الشعور الانفعالي الذي يجتاحه.

ما علاقة المشاعر بمعنى الحياة؟

يرتكز مفهومنا لمعنى الحياة على نقطة أساسية، يمكن وصفها بأنها جوهرية القيمة في حياة المرء.. وهذه الجوهرية تبدأ من أسلوب الإنسان في عيش حياته، حيث تظهر فيه الجذور المعرفية التي تمدّ هذا الأسلوب، فتتجلى فيه -رغم النقص البشري- قيم إيمانية أو أخرى استهلاكية معولمة، وتمر بتعامله مع نفسه والآخرين والأشياء من حوله، وطريقته في النظر للوجود.

وهكذا تبدو لنا هذه الجوهرية متمركزة -في غالبيتها- إما على مشاعر فردية مستفادة من سياقات -جرى وصفها آنفًا- أو على رؤية إيمانية تدور حول الإقرار بالله ربًّا، والاستمداد منه معاني الوجود وما يتصل به من فرح وسعادة ونعمة وألم وصبرٍ ورضى.

وهكذا تبدو لنا هذه الجوهرية متمركزة -في غالبيتها- إما على مشاعر فردية مستفادة من سياقات -جرى وصفها آنفًا- أو على رؤية إيمانية تدور حول الإقرار بالله ربًّا، والاستمداد منه معاني الوجود وما يتصل به من فرح وسعادة ونعمة وألم وصبرٍ ورضى.

هكذا تبدو النقطة المركزية، إلا أنه لا بد من وجود نقاط تشوّش على الناس معنى الحياة لديهم، فالإنسان مُرَكّب على النقص، وسعيه لتحصيل قيم الكمال يساعده على ترميم هذا النقص، وهي خطوات فعلية في طريق الامتحان الذي وُضعنا فيه.

من جملة الأسباب العامة التي تشوّش معنى الحياة عند الناس منها، هو اختلاط المشاعر وتناقضها وربما تبلّد شعور الإنسان تجاه مجموعة من الأحداث والأشخاص، إلى جانب مشكلات أخرى -ترتبط بالمسلم بشكل أعمق من غيره- وهي تنامي الغفلة في فكره وحياته، وضعف ارتباطه بالله، وانغماسه في نماذج متنوعة من مظاهر الفردانية والمشاعر الاستهلاكية وربما العدمية.

إن ضعف العلاقة بالله، وتصاعد منسوب الاضطراب الشعوري، وزيادة الإحساس بالألم من جهة، والفوضى وغياب الهدف من جهة أخرى، ستوقع الإنسان بلا ريب في خندق مليء بأشواك العدمية وتعزيز تمركز الإنسان حول ذاته، وبالتالي يزداد خط الانحراف بعدًا عن الطريق القويم، ويبتعد عن الوصول إلى فهم جوهر الحياة ومعناها وغاية وجوده فيها.

هل يمكن تجاهل الإيمان؟

يؤسس القرآن للإنسان رؤية متوازنة للحياة، قائمة على الإيمان المطلق بأن الأساس والغاية هو الله، وأنه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى معنى دقيق لها إلا بمعرفة الله والإيمان به واستمداد القيم كلها منه، وهذه الأرضية هي البنية الأساسية للمعرفة الإيمانية والروحية والأخلاقية والأساس الأول لبناء نظام معنوي متكامل.

وحين يعرض الله الحياة يقربها لنا في منطلقات ثلاث: الحياة الدنيا، التي يعيشها الإنسان، وهي لحظات زمنية محدودة، إلا أنه قد يتنازعها الشعور بالضعف والنقص والاكتئاب ويحتاج الإنسان فيها لما يعينه على قضاء حوائجه المادية كالمال والأولاد فـ “﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: 46]، وبعد هذه الحياة المحدودة تأتي حياة أخروية أبدية حينها تتجلى الحقيقة أمام الإنسان فيقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 24]، وثمة حياة فوق كل حياة، وهي حياة الباري عز وجل فهو ﴿الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58] ومن ثم لا بد من التوكل عليه فهو الوحيد الذي له جميع معاني الحياة الكاملة التي تليق بجلاله.

إن ضلال سؤال المعنى وتخبطه في السياق الغربي، أحدث أزمة في فهم معنى التديّن وجعله محصورًا في البحث عن معنى ما وإلحاحٌ لإشباع حالة عاطفية وروحية، بينما التدين في الحقيقة نظام إيمانيٌّ يضبط سلوك الإنسان وينظّم علاقته بالوجود من حوله.

من جملة غايات هذه الحيوات الثلاث إظهار التباين بين الزمني المؤقت في الدنيا، والأبدي الأخروي، والكمال الرباني، وعلى هذا فإن إيمان الإنسان بجلال الحياة الإلهية وكمالها وسعيه للتقرب من الله، سيدفعه لتحصيل مقام أخروي عالٍ، وهذا لا يكون إلا بالعيش في حالة من الإيمان في حال الحياة الدنيوية، بعيدًا عن سرديات الدنيوية والعلمنة، فإن ضلال سؤال المعنى وتخبطه في السياق الغربي، أحدث أزمة في فهم معنى التديّن وجعله محصورًا في البحث عن معنى ما وإلحاحٌ لإشباع حالة عاطفية وروحية، بينما التدين في الحقيقة نظام إيمانيٌّ يضبط سلوك الإنسان وينظّم علاقته بالوجود من حوله.

وإذا ما عدنا إلى “لكروا” نجده يقترح التأمل سبيلاً لتجاوز سيل الاضطرابات الشعورية، إلا أن هذا التأمل لا يخرج عن إطار البحث عن معنىً ما ليجد فيه الإنسان بعض الطمأنينة والسكون، في حين أن غاية الإيمان -رغم قدرته على إشباع المؤمنين عاطفيًّا وروحيًّا- التكمّل بالنظام الرباني في مسار الوجود والتشبه بصفات الله العظمى توحيدًا وإخلاصًا.

د. عرابي عبد الحي عرابي

دكتوراة في الفلسفة الإسلامية

د. عرابي عبد الحي عرابي

دكتوراة في الفلسفة الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى