خصائص الحضارة الإسلامية (3)
أولًا: الحضارة الإسلامية ربانية المنهج والتوجه_ الجزء الأول
إن الباحث فى جميع الحضارات التي نشأت على الأرض منذ الخليقة الأولى إلى يومنا هذا، يجد أن الشرك وعبادة الأوثان معلمان رئيسان فى جميع الحضارات قاطبةً، وأينما وجهت وجهك تجد أصنامًا تُعبد، وآلهة تُمجد، وأساطيرَ تُكتب، وقصصًا وروايات تُسطر، كل ذلك من نسج الخيال والأوهام، ليعيش العقل البشري فى دوامة التيه والضياع والتنكر لشرائع السماء وعقيدة التوحيد، يقول الله تعالى فى محكم التنزيل: {قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلُۚ كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّشۡرِكِينَ} (الروم: 42)، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: 106).
إن المتجول في آثار الحضارات ليجد أصناماً متعددة بتعدد الأمكنة والأزمنة وتنوعت أشكالها وأحجامها، وغاب وعي الإنسان وعقله ورشده وصوابه حين اتخذ هذه الأصنام آلهة تعبد من دون الله مع علمه أنها لا نفع منها ولا ضرر ولا سمع ولا بصر بل إنها حمالة الحطب إلى نار لهب: {لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الأنبياء: 22)، {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (الإسراء: 42)، {مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍۢ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ سُبْحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91).
وجاء الإسلام برسالته الخالدة لينقذ البشرية من هذا التيه والضياع بالدعوة إلى عقيدة التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأوثان
وهكذا عاش الإنسان فى هذه الحضارات على مر العصور والأزمنة يحمل كثيرًا من التصورات والمعتقدات الباطلة عن حقيقة هذا الكون وخالقه وعن الهدف من هذه الحياة وإلى أين وجهته ومصيره، وأرسل الله الرسل ليبينوا للناس صحيح المعتقد والتصور وجاءت كل الرسالات والأنبياء بعقيدة واحدة، أن لا إله إلا الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25).
وجاء الإسلام برسالته الخالدة لينقذ البشرية من هذا التيه والضياع بالدعوة إلى عقيدة التوحيد ومحاربة الشرك وعبادة الأوثان؛ فعاشت البشرية ردحًا من الزمن تستظل برسالة السماء وعقيدة التوحيد فتحطمت الأصنام، وانزوى الشرك وعبادة الأوثان واستنارت البشرية بنور ربها وهاديها إلى الصراط المستقيم، ويوم تراجع الإسلام عن الريادة عادت البشرية إلى الغواية إلى التيه والضياع والبعد عن الله؛ فما أحوجها اليوم إلى الإسلام عقيدة وشريعة وأن تأوي إلى ربها رب البرية، ولم تسلم الديانات السماوية كاليهودية والنصرانية من الشرك: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30)، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة: 73).
كما أن الحضارة المعاصرة هي الأخرى سارت على درب الحضارات القديمة فورثت كثيرًا من المعتقدات الوثنية والشركية، وذلك من خلال:
1- خضوع الديانة المسيحية للتحريف، وأول ما حدث مع بولس حين كتب الأناجيل المحرفة بعد خمسين عاما من ميلاد عيسى عليه السلام، وثانيه الإمبراطور قسطنطين حين أدخل في المسيحية المعتقدات الوثنية، ولذا لم تبقَ المسيحية على دعوة التوحيد.
2- عصر النهضة الأوروبية الذي بدأ بإحياء التراث الإغريقي اليوناني الوثني والذي تأسست عليه التصورات العقدية والفكرية في الحضارة الأوربية الحديثة. إن الحضارة الغربية اليوم تتنكر لخالقها فهي بعيدة كل البعد عن الله تعالى سواء في التصور والمعتقد أو في التشريع والسلوك.
من الاستعراض السابق يتضح لنا أن كل الحضارات السابقة والمعاصرة لبست لباس الوثنية والشرك، وبقي الإسلام هو الدين الوحيد على وجه الأرض الذي يدعو إلى عقيدة التوحيد وقد اهتم الإسلام بالبناء العقدي كل الاهتمام، فجاءت سور قرآنية طوال تتحدث عن العقيدة الإسلامية بناءً، وللعقائد الوثنية والشركية نقدًا وهدمًا ونسفًا: {قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى ٱلْحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُۥ وَٱنظُرْ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِى ٱلْيَمِّ نَسْفًا} (طه: 97)، ووضح لنا الإسلام علاقة الإنسان بخالقه وأن الله هو الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بصفات الكمال: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11)، وأنه هو المستحق للعبادة وحده فلا معبود بحق سواه، وأنه سبحانه هو الذي له حق التشريع فلا يحل لأحد أن يحل حلالًا أو يحرم حرامًا.
{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]