معضلات ما بعد الإنسان
منذ فترة وبينما كنت أتلقى جرعتي الإدمانية المسائية بتقليب المقاطع القصيرة على اليوتيوب، رأيت مقطعاً يظهر بشريين يربطون إلى حبل ويقومون بالعواء، ويقلدون بأفواههم أصوات الكلاب، وذلك لشعورهم أنهم كذلك، ولا يحق لك أن تقول شيئاً، وكما هي العادة قام علماء النفس بتصنيفهم كاضطراب نفسي جديد:)
ومنذ ذلك اليوم تراودني أفكار بأن أشعر بأنني حمار لمدة ساعتين، وأوجه خمس رفسات لبعض الوجوه أربعة منها للسياسين، ومن ذا الذي يستطيع العتب على الحمار!
على نحو مشابه سمعت عدة مرات من أساتذة كرام ومحاضرين مهتمين أو مختصين بعلوم الاجتماع والسياسة عبارات تفيد أن الحضارة الغربية أفلست، وأنه لا شيءَ جديد لديها تقدمه للكون، وأنها باتت تهضم نفسها وتتقيء السفهَ الذي تصدّره لنا وأن ذلك ينبع من إهمالهم القيم الروحية، والحريات التي لا قيود لها.
ولأني لم أزر العالم الغربي من قبل ولم أقف على علومهم الفكرية وتراثهم الحضاري، كنت -ومازلت- أتلقى هذه الاستنتاجات كحقائق ومسلمات، وفي نفسي حسرة مفادها: يا ليتني أستطيع أن أقرأ وأعاين ما عاينوه وأصل بنفسي لما يقولونه… ولكن أنى لي وبعضهم تضاعفت سماكة نظارته حتى وصل إلى ما وصل إليه.
ولكنني في الفترة الماضية كنت قد تلقيت محاضرات في أدبيات مهنة الطب وواجبات الطبيب وحقوقه وتفاصيل العلاقة بين الطبيب والمريض وما إلى هنالك ووقفت على تاريخ نشوء الكثير من القوانين التي تحكم العالم الطبي اليوم وإليك هذه الحكاية
خلاف طويل: متى نعتبر الجنين إنسانا ومتى يحق للأم إجهاضه؟ وهل يحق إجهاض جنين حملته أمه غصباً عنها ؟! في فترة من الفترات كان يحرّم الإجهاض في إحدى الولايات الأمريكية، بينما هو حقٌ تحميه الدولةُ بمجرد انتقال المريض بضعة كيلومترات ويصل إلى ولاية أخرى، إلى أن جاءت قضية (رو ضد وايت) في عام 1973، وقضت المحاكم حينها بحماية حق الإجهاض للمرأة … قصة عابرة تغير قراراً لبلدٍ بأكمله! ثم ألغي القرار من جديد قبل سنتين!
معضلة أخلاقية: للمريض حق الاختيار والرفض المطلق للعلاج، ماذا لو كان خيار ترك العلاج مميتاً!؟ وكم هي المدة التي يقضيها الطبيب في السجن إذا أنعش مريضاً كان قد أوصى ألا يُنعش؟! وهل يُحبسُ من مهِمتُهُ إنقاذ النفس لأنه أنقذها؟! وهل يحق للطبيب إيقاف الدواء عند فقد الأمل بقصد إراحة المريض؟! ثم ظهرت معضلة الموت الرحيم وقصة الدكتور (جاك كيفوركيان) الذي أراح 130 مريض من حياتهم سِرّاً!
موقف محير: هل يحق لكفيل المريض أن يطلب إيقاف الأجهزة الطبية في الموت الدماغي؟! وهل يحق له أن يرفض؟! ماذا لو لم يكن المريض موافقاً على الموت أو على الحياة؟! ثم تأتي قصة: كارين آن كوينلان، لتتدخل المحاكم.
تشعر وكأنه لا خطوط حمراء، لا مُثل عليا ولا قيم يستندون إليها غير رأي الطبيب ورغبة المريض، واستفتاء جديد كل يومين.
كان يدهشني ويضحكني ويؤلمني في كل مرة أن الذي يدفع لتغيير القانون من متاح إلى ممنوع أو العكس هو قصة حدثت واشتهرت، ولربما ضغط إعلامي، أو مطالب شعبية، “الترند” بحد ذاته سبب لسن قانون وإلغاء آخر، تشعر وكأنه لا خطوط حمراء، لا مُثل عليا ولا قيم يستندون إليها غير رأي الطبيب ورغبة المريض، واستفتاء جديد كل يومين.
إذا كانت المسائل التي تتعلق بحياة الإنسان وموته وروحه والتي هي أخص خصائص الإنسان وجوهره تسير على هذه الشاكلة، فكيف تسير المعاملات المالية وقوانين تنظيم الأسرة، وقراراتهم التي تقود المجتمع ؟ وعندما تكون حضارة كهذه بلا مرجعية ثابتة ترجع إليها سوى دستور يُعدّل حسب الأهواء، لن تستغرب أن تتألف الأسرة من رجلين وطفلة!
ولكن أحكامنا لا تؤثر فيها قصة مشهورة حدثت، ولا تحركها موجة ضغط إعلامية، ولا تصاغ تبعاً لنبض الشارع ومطالب الناس، وإنما هي موجودة مقررة، نحن نرجع لشرع وضعه الخالق وهم يبتدعون لرغبة المخلوق
أشعر أن بإمكاني أن أقول مبدأياً دونما حاجة لأن أتعب عيني في كتب الفلسفة وتحليل عناصر حضارتهم بشكل تفصيلي: أيُّ حضارة غبية تقود عالمنا اليوم! ومع أنني أعلم تماماً أن في ديننا خلافاً في المسائل التي سبقت، وأقوال العلماء كثيرة في الإجهاض والموت الدماغي وما إلى هنالك، ولكن أحكامنا لا تؤثر فيها قصة مشهورة حدثت، ولا تحركها موجة ضغط إعلامية، ولا تصاغ تبعاً لنبض الشارع ومطالب الناس، وإنما هي موجودة مقررة، نحن نرجع لشرع وضعه الخالق وهم يبتدعون لرغبة المخلوق، ونحن مهما اختلفنا .. متفقون على أن مرجعيتنا هي قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لا دساتير وضعية متقلبة.
وإذا ما صدرت الفتوى الشرعية من عالم ثبت- سواءً كانت حسب ما تمنيناه أم لا- نستطيع أن نعيش راضين بحكم الله دون أن نفكّر بالذهاب للمحكمة والطعن والاستئناف وبدون أن نشعر بالظلم، أورغبة في تغيير الحكم. نذعن للحق و ننام مطمئنين وفي أسماعنا يتردد صدى قوله تعالى:أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.