المقالات

طوفان الأقصى والعودة إلى الفطرة

في ساعات الصفوة والهدوء لا تخلو حياة الإنسان -أي إنسان- من التفكر في الكون والحياة والتفكر بمن وراء خلق هذه الأكوان العظيمة وهذه الحياة المتناسقة والمنظمة، والبحث دائماً عن مصدر يعطي تفسيرات وإجابات منطقية على الأسئلة الملحة التي تنظم حياة الإنسان وتضبط سلوكه.

فلسفة الحياة والإجابة على الأسئلة الوجودية فيها هي أكثر ما يتبادر إلى ذهن الإنسان بعيداً عن المعتقدات والأيديولوجيات التي يعتنقها ويعيشها، فهذه اللحظات التي تكون مجردة من كل شيء يعيش فيها الإنسان مقارنات تنعقد في عقله بين ما يعتنقه من معتقدات وأفكار وبين حقائق الواقع المجردة، فالمعتقدات والأفكار هي ما تشكل سلوك الإنسان وهي ما تنظم نظرته للحياة وللتفاصيل الصغيرة في سلوكه، وهي التي تشكل تفاعلاته في يومه من حب وكره، ولين وقسوة، ولطف وعنف، وتسامح وتعصب، ورضا وسخط، وصبر وجزع، وسلام وإجرام وغيرها من سلوكيات لا تصدر نتيجة كوامن نفسية خالصة، أو ردود أفعال مجردة، وإنما تحكم الحالة النفسية وردود الأفعال الانفعالية أمور أعمق في النفس البشرية من خلالها يمكن فهم سلوك الإنسان ودوافعه، فالمعتقدات والقيم تعبر عن منطلقات ومحددات ينطلق منها سلوك الإنسان وتحدد ضوابطه. في هذه اللحظات حين يجد الإنسان نفسه في صراع بين المعتقدات والسلوك يبدأ الإنسان في البحث عن معتقدات تضمن سلوكاً متوافقاً مع ما يحمله من معتقدات، وتجيب بشكل منطقي ومحكم على جميع التساؤلات.

ما علاقة ذلك بطوفان الأقصى؟ في المعركة الدائرة اليوم بين الكيان المحتل وخلفه كل دول العالم “المتحضر” والفلسطينيين ممثلين في المقاومة الإسلامية ظهر بشكل واضح وجلي أثر المعتقدات والأفكار التي يحملها كل طرف في أرض المعركة، وذلك لأن تأثيرات المعتقدات الصادقة والقيم الراسخة تظهر عندما توضع على المحك، أما في الأوقات العادية التي لا تمثل اختبار للقيم والمعتقدات فإن الجميع يستطيع ادعاء المثالية والنموذج المتحضر كما تصف حالها الدول الغربية رفقة الكيان المحتل، والذي يظهر مدى رجعيته وتخلفه حين يوضع على المحك الحقيقي خصوصاً في المعارك التي تطغى فيها النزعات النفسية على القيم والمبادئ، فكيف إذا كانت هذه المعارك تمثل مصالح وخطوط حمراء لمثل هذا العالم المتوحش.

لعل الصادقين الذين يبحثون عن الإيمان الصادق الذي تتوافق فيه المعتقدات والأفكار مع السلوك، ممن يعيشون في ذلك العالم وممن تشبعوا بمعتقداته وأفكاره، هم أكثر الذين رصدوا أن المعتقدات التي يعتنقونها هي من تقودهم إلى مثل هذا التوحش، وذلك بسبب عدم وجود مرجعية للقيم سوى عقل الإنسان الخاضع للنزعات والرغبات البشرية، في وضع هلامي تجعل مصالح الإنسان هي من يحدد حدودها ويرسم ملامحها ويعين الخير من الشر فيها، ويرجع ذلك لأن عدم وجود مرجعية لدى الإنسان سوى الإنسان ذاته ورغباته ونزعاته هي من أخطر وأشد المعتقدات التي دمرت البشرية، لأنها لا ترى في الخطأ خطأً إذا وافق رأي مجموعة قوية هي تحدد الصواب من الخطأ والخير من الشر، لذلك فإن قتل آلاف من الأبرياء والأطفال في غزة يمكن أن يكون مباحاً، وتدمير المدن يصبح ضرورة، واعتقال النساء والأطفال بأحكام طويلة أمراً قانونياً، وحصار المدن ومنع الدواء والغذاء والماء أمراً طبيعياً، وتعذيب الأسرى وانتهاك كرامتهم أمر مسكوت عنه، في حضرة القوي الذي يحدد الخير من الشر، والذي يرسم للعالم حدود القيم والمبادئ التي يجب أن يعيشوها.

أما في الطرف المقابل سواء على مستوى الضحايا والأبرياء من سكان غزة فقد رصد هؤلاء الباحثين عن الحقيقة مواقف أثرت في معتقداتهم وأخذوا يبحثوا عن مصدرها، مثل مواقف الرضا والصبر والثبات رغم الابتلاء، فتلك المواقف يراها المسلم من علامات قوة الإيمان والثقة بوعد الله، في حين أن من تشبع بالمعتقدات المادية التي ترى في الحياة البداية والنهاية يتعجب منها، والصادق منهم ويبحث عن مصدرها في معتقدات هؤلاء المؤمنين الصابرين. حتى على مستوى المقاومة والتي أظهرت قيم وتعاليم الإسلام بشكل واضح وجلي في تعاملهم مع الأسرى وفي احترامهم لحقوق الأطفال والأبرياء والحيوان في معاركهم جعلت الكثيرون يبحثون عن مصدر هذا الحلم والصبر الذي يمنعهم من الانتقام والمعاملة بالمثل كما يفعل أعداؤهم بهم.

كل ذلك جعل كثيرون ظهروا على وسائل التواصل الاجتماعي من الغربيين يعيدون نظرتهم لمعتقداتهم وقيمهم وسلوكهم، حيث كانت المشاهدات التي رصدت عبر وسائل الاعلام المتنوعة والتي تظهر أشخاص يبدون تأثراً ليس على مستوى المشاعر فقط فيما يحدث في غزة، وإنما على مستوى المعتقدات والأفكار، بدأ الكثير منهم البحث في القرآن الكريم وقراءته وتطبيق معانيه وأوامره على أمثلة في الحياة ووجدوا أنها أكثر منطقية في فهم الحياة، وفي الإجابة على التساؤلات الوجودية التي تشغل بال الكثيرون منهم حيث لقوا طريق إجابتها عن طريق أحداث غزة.

وهنا يأتي تساءل مهم ومشروع للمسلم الذي يعيش وسط هذه الأحداث وهو يحمل هذه المعتقدات الثمينة التي يبحث عنها من افتقدها، كيف له ألا يتأثر إيجابياً تجاه عقيدته ودينه والمنهج القويم الذي يحمله في هذه الحياة، وكيف له أن يترك هذا الكنز ويبحث عن حلول بديله لمشكلاته في الحياة عن طريق معتقدات يفر أصحابها منها؟

طوفان الأقصى أعاد كثير من الأمور إلي نصابها، وأهمها عودة من أراد من الناس إلى الفطرة وهم يرون أصنام المعتقدات الغربية تتهاوى ولا تصمد أمام اختبارات واقعية حدثت أمام أعينهم، فكل المبادئ والقيم التي نادى بها الغرب لسنوات طويلة فشلت أمام الاختبارات الحقيقية

طوفان الأقصى أعاد كثير من الأمور إلي نصابها، وأهمها عودة من أراد من الناس إلى الفطرة وهم يرون أصنام المعتقدات الغربية تتهاوى ولا تصمد أمام اختبارات واقعية حدثت أمام أعينهم، فكل المبادئ والقيم التي نادى بها الغرب لسنوات طويلة فشلت أمام الاختبارات الحقيقية، وكل القوانين التي وضعتها الدول الغربية لتحقيق العدل والنظام في العالم تحت مظلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن تم دهسها بالفيتو تحت مجنزرات الاحتلال بدعم وتأييد وصمت من أقوى دول العالم، هذه المواقف السياسية أيقظت الشعوب التي كانت في غفلة التحضر قبل أن توقظ شعوبنا العربية والمسلمة، والرسالة واضحة من هذه الأحداث أنه لا يمكن أن يسود العدل والسلام في هذا العالم من دون حضارة تحمل في أسسها مرجعية أخلاقية وقيمية وإنسانية مثل الإسلام.

د. إبراهيم محمود آل حرم

دكتوراة في الاقتصاد الإسلامي من جامعة صباح الدين زعيم في مدينة اسطنبول ،ماجستير في الحديث الشريف من جامعة يالوفا في تركيا  ،حاصل على البكالوريوس في الدراسات الإسلامية من كلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي. ،الدكتور إبراهيم عضو مؤسس في "الرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع" وهو مهتم بالفكر والاقتصاد والسياسة. ،صدر له كتاب "التنمية الخليجية والفشل المتكرر" ،نشر كذلك رسالة دكتوراه بعنوان "مستقبل التنمية المستدامة في دول مجلس التعاون الخليجي في ظل الاعتماد على الاقتصاد الريعي (رؤية إقتصادية إسلامية)" ،تم نشر رسالة الماجستير للدكتور ابراهيم "علوم الحديث في مقدمات كتب الحديث حتى نهاية القرن الخامس الهجري". ،نشر الدكتور العديد من الاوراق البحثية منها: - الورقية البحثيةبحثية: التطورات السياسية في الإماراتفي تقرير مركز الخليج لدراسات التنمية لسنة ٢٠١٥م ( الخليج والآخر). - الورقة البحثية مقدمة للمؤتمر الدولي الثالث للأكاديمية الأوروبية بعنوان ( مقومات وتحديات نظام نقدي وإنساني عادل). - الورقة البحثية: أثر التبعية على التنمية المستدامة في دول الخليج، مقدمة للمؤتمر الدولي الرابع للأكاديمية الأوربية.

د. إبراهيم محمود آل حرم

دكتوراة في الاقتصاد الإسلامي من جامعة صباح الدين زعيم في مدينة اسطنبول ،ماجستير في الحديث… المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى