رؤية المسلم في الحياة
نظرة الإنسان للكون والحياة وما بعدها هي ما تشكّل معيار نظرته لكافة مناحي الحياة، من أبسط أحداثها إلى أعقدها كما تشكل مسار سلوكياته من أبسطها إلى أعمقها وأكثرها إلحاحاً وتعقيداً، وهي التي تمنحه إجابات واضحة ودقيقة على الأسئلة الملحة في حياته، وبها يقيس الأمور بشكل أكثر موضوعية وسلاسة، كما أن هذه النظرة هي أساس الصراعات التي تدور بين البشر، وأساس الصلاح أو الفساد الذي يحدث في الأرض، وأساس العمران أو الخراب الذي يقود الإنسان البشرية إليه، ولعل أهم اختلاف حدث بين البشر منذ أن خلق الله آدم إلى يومنا هذا كان في تحديد المرجعية الأساسية التي تفسر نظرة الإنسان للحياة، فدخل البشر في صراعات وأوهام وخلقوا لأنفسهم مشكلات وعقائد شكلت لهم مسارات مركزية تصب فيها باقي مسارات حياتهم الفرعية، ولعل أهمها في عصرنا الحديث مركزية المادة في الحضارة الغربية التي تسود العالم.
لقد جرب البشر جميع أنواع المرجعيات التي تمنح الإنسان نوع من الطمأنينة في فهم جزئي للحياة، وهدف الإنسان الخالد هو الوصول إلى السعادة والطمأنينة في هذه الحياة، وأخذت البشرية على مر الزمان تكرار نفس الأخطاء التي ترتكب في كل عصر من العصور، وكان عقل الإنسان المجرد من التوجيهات الربانية هو الحاكم على مجرياتها، وسرعان ما يدور هذا العقل حول نفسه ليصنع تقديساً لأشياء تافهة وبسيطة لا قيمة لها، فكلما أراد التجرّد والسمو سقط وانحدر في أطماع ذاته، وافتقد البوصلة في تنظيم حياته، حتى وصل الإنسان إلى حقيقة أنه لا يدرك مصلحة ذاته ونفسه، فليس كل ما يسعد الإنسان في لحظة معينة هو مفيد، بل قد تكون سعادة لحظة هي سبب شقاء عمر بأكمله، وهذا ما وقعت به الحضارة الغربية اليوم والتي تشابهت مع الحضارات السابقة في المضمون الذي يترك الإنسان أسير ذاته ولذاته.
لذلك جاء الإسلام بوضع قواعد وإرشادات وتوجيهات تشكل مرجعية أساسية للإنسان في فهم حياته من خلال توجيه مباشر لما ينفع الإنسان وما يضره، وهذه التوجيهات لم تكن على شكل أوامر مباشرة فقط وإنما كانت عبارة عن أحكام وقواعد عامة وقيم خالصة ومحددة، لم تسلب عقل الإنسان ولم تسيطر على سلوكه، وإنما تركت له حرية الاختيار بين ما يريده منه الخالق وبين متطلبات ذاته البشرية، وذلك ليحقق التوازن بين حاجات ذاته وبين سبب وجوده في هذه الحياة، وذلك عبر تحقيق هذه المتطلبات ضمن حدود وضوابط ربانية تفهم طبيعة النفس البشرية، فمن خلقها هو أعلم بها وبما يصلحها وما يضرها.
فوظيفة العبودية لله وحده التي لأجلها خلق الإنسان؛ تحكم سلوكه وتوجه أهدافه وغاياته، وكل ما يأتي بعدها من أهداف وغايات يجب أن لا تخرج عن هذه الرؤية الأساسية للمسلم،
ولعل أهم قاعدة تنظم رؤية الإنسان للحياة وتبنى عليها باقي القواعد هي معرفة الخالق والإيمان به وتصديق كتبه والإيمان بملائكته ورسله، وهي رسالة التوحيد التي جاء بها الأنبياء والرسل وختم بها برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والتي جاءت شاملة جبت ما قبلها ولا رسالة بعدها، فالإيمان بالخالق -الله جل وعلا- هو أساس رؤية المسلم في حياته، لأن الله تعالى خالق الإنسان هو الذي يحدد له سبب وجوده فيها، وهو الذي يفسر له معنى الحياة التي يعيشها، وهو الذي يجيبه على أسألته الملحة التي تطرق باب عقله، فعن الحياة الدنيا يخبر الله تعالى بأنها دار اختبار وممر؛ والحياة الآخرة هي دار نتيجة ومستقر، كما في قوله تعالى: (وَمَا هذه الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، وفي قوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا)، وبعد أن وضح للإنسان معنى الحياة الدنيا وحجمها الطبيعي في هذا الخلق، وضح للإنسان هدف وجوده فيها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)، فوظيفة العبودية لله وحده التي لأجلها خلق الإنسان؛ تحكم سلوكه وتوجه أهدافه وغاياته، وكل ما يأتي بعدها من أهداف وغايات يجب أن لا تخرج عن هذه الرؤية الأساسية للمسلم، وبهذه الحقيقتين يجيب الإنسان على كثير من الأسئلة الوجودية العالقة ويفهم دوره وسبب وجوده في الحياة.
وبعد أن يفهم الإنسان معنى وجوده وهدفه في هذه الحياة الدنيا، أعطانا الخالق جل وعلا حقيقة مهمة لا يكتمل الإيمان إلا بها وهي أن هناك حياة أخرى فيها يحاسب الإنسان على ما فعل وقدم في الحياة الدنيا، وهي حياة خلود في الآخرة؛ إما في نعيم دائم، أو في جحيم دائم، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وهذا الإيمان والفهم يكمل الصورة لدى الإنسان ويوضح غايته فيها.
ثم يأتي الربط بين الحياة الدنيا والآخرة في طريقة الانتقال بين الحياتين عبر الموت، فمن كانت نظرته للحياة خاطئة تكون نظرته للموت خاطئة، لأن الموت هو الطريقة التي ينتقل فيها الإنسان من الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة، وهذه الطريقة هي حقيقة محتمة يؤمن بها جميع البشر، وهي لحظة صعبة عند جميع المخلوقات، ولكن تختلف النظرة لها باختلاف رؤية الإنسان للحياة، فالذي لا يؤمن بالآخرة يرى أن الحياة الدنيا هي حياة الخلود لذلك يجزع من الموت ويصاب باليأس حين يفقد قريباً أو حبيباً، لأن الموت يكون حينها نهاية، في حين يعتبر الموت بالنسبة للمسلم مجرد بداية لحياة الخلود كما في قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور).
فترى المؤمن تطمئن روحه ويهدأ قلبه وتسكن جوارحه، ويسلم أمره لخالقه ويرضى بما قضاه الله عليه وقدر في الحياة الدنيا، ويُسَيِّرُ حياته الدنيا وفق لهذه الرؤيا التي آمن بها واستقر عليها عقله وسلم لها بقلبه وجوارحه.
أثر هذه الرؤية على حياة الإنسان
يظهر أثر هذه الرؤية على حياة الإنسان عبر مدخل مهم تميز به الإسلام كمنهج حياة؛ يربط سلوك الإنسان بالغاية والمقصد من وجوده على هذه الأرض المتمثلة بعبادة الله وحده، ولتحقيق مقصد العبودية المطلقة لله تعالى وحده، وجد مقصد عمارة الأرض كضرورة لتستقيم حياة الإنسان وليلبي احتياجاته البشرية فيها؛ وحتى يحقق الأمن والاستقرار الذي يهيئ له بيئة سليمة لتحقيق معنى العبودية الأسمى.
وفي طريق الإنسان لعمارة الأرض لتحقيق المعنى الأسمى للعبودية المطلقة لله تعالى وحده، فإنّ المسلم يعيش ضمن قيم الشريعة الإسلامية ومقاصدها؛ التي تحفظ حياة الإنسان وتمنعه من الطغيان والفساد في الأرض، وتجعل هدفه الأسمى حاضراً في كل حركاته وسكناته، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)، وفي قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ).
وتعقيبًا على هذه الآية قال ابن عاشور: والمراد بالدّين دين الإسلام؛ لأنّ الخطاب موجّه لنبينا محمد ﷺ، فهو مأمور بإقامة وجهه للدّين المرسل به. ووصف الإسلام بأنّه فطرت الله، يعني أنّ الأصول التي أتى بها الإسلام هي من الفطرة التي خلق الله الإنسان عليها لعمارة الأرض، فهي صالحة لانتظام العالم على أكمل وجه، وتتبعها أصول وفروع من الفضائل المنتشرة والمقبولة عند الناس؛ والتي حضّ عليها الإسلام، وهي ناشئة عن مقاصد الخير السالمة من الضرر؛ لأن أساسها يرجع لأصول الفطرة[1].
وفي كلام ابن عاشور لطيفة تُوسّع آفاق المسلم في تلمس التجارب الإنسانية الناجحة وتبنيها، فكل وسيلة خير تؤدّي إلى خير فهي ترجع إلى أصل الفطرة، وهذا ما يرفع الحرج عن المسلم في الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى في كل مناحي الحياة، بحيث ألا تتعارض هذه التجارب مع رؤية الإنسان وهدفه الأسمى في تحقيق معنى العبودية، ولا تتعارض مع مقاصد وأحكام الشريعة، ولا تؤدي لمفسدة أكبر من المصلحة المرجوة منها، وفي قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)، أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنّه إنّما يأمر بخير وإنّما ينهى عن شرّ[2].
تمثّل المقاصد الشرعية والقيم التي أمر بها الشارع الكريم الإشارات المرشدة في حياة الأفراد والمجتمعات، التي تحدّد الطريق نحو تحقيق الرفاه في الدنيا، والنجاح في الآخرة، وتمنع الطغيان والفساد في الأرض، بحيث تكون المقاصد والقيم هي المحددات التي تبنى من خلالها النماذج السياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء كانت على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمعات
حيث تمثّل المقاصد الشرعية والقيم التي أمر بها الشارع الكريم الإشارات المرشدة في حياة الأفراد والمجتمعات، التي تحدّد الطريق نحو تحقيق الرفاه في الدنيا، والنجاح في الآخرة، وتمنع الطغيان والفساد في الأرض، بحيث تكون المقاصد والقيم هي المحددات التي تبنى من خلالها النماذج السياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء كانت على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمعات، فسلوك المسلم لا ينفك عن هذه المحددات التي تضمن أن حياته تسير وفق منهج واضح لتحقيق الغاية العظمى التي لأجلها خلق الإنسان في الأرض واستخلف فيها، فالصناعة والتكنولوجيا والزراعة والعلاقات التجارية والاقتصادية والاجتماعية بين البشر تحكمها هذه المحددات التي تقود لتلك الغاية العظمى من الخلق.
والأمثلة في كل مناحي الحياة لا حصر لها، لأن هذه المسألة تحكم كافة عموميات وجزئيات الحياة، وفي ظل الحياة المادية المعاصرة يمكن أن يكون المال مثالاً جيداً، حيث يمثل المال قيمة مهمة للإنسان ولكن يختلف التعامل معه باختلاف الغايات والمنطلقات التي تحكم حياة الانسان، فترى بعض البشر يمكن أن يفعل كل شيء لأجل الحصول عليه بغض النظر عن مشروعية الوسيلة، وذلك لأن شرعية الوسيلة في الواقع المعاصر يحددها القانون، الذي يحدد المباح وغير المباح في التعامل مع المال، ولكن المال عند المسلم ليس غاية الغايات التي يسعى إليها، بل هو وسيلة تحقق له الرفاه في الحياة الدنيا وتضمن له حياة كريمة، وذلك لأن المال في أصله هو مال الله وهو مستأمن عليه، وشرعية الوسائل لدى المسلم تحددها الشريعة الإسلامية، فطريقة كسبه يجب أن تكون بطريقة سليمة متوافقة مع أحكام الشريعة، وصرفه يجب ألا يكون فيما حرم الله، وحين يتعامل المسلم بوسائل محرمة في كسب المال أو انفاقه كالربا والغش والسرقة والتحايل والقمار وغيرها من الطرق غير المشروعة، فإن هذا السلوك هو نتيجة لغياب الرؤية التي خلق لأجلها عن حياة هذا المسلم، ويمكن قياس هذه المسألة على كافة المعاملات والسلوكيات في الحياة.
وفي العصر الحاضر صار هناك انفكاك بين العقيدة التي يؤمن بها المسلم وبين واقعه في الحياة، وذلك نتيجة لسيطرة الحياة المادية الإلحادية الغربية على حياة الإنسان المعاصر، والتي أخرجت نماذج تخدم الرؤية الغربية المادية البحتة، وصنعت نموذج للمسلم الذي يعيش شعائر تعبدية في أوقات محددة؛ وفي نفس الوقت يمارس سلوكاً يخالف الرؤية والهدف الذي خلق لأجله، لذلك يشاهد أن سلوك البعض يخدم رؤى وعقائد مختلفة تؤدي بسلوك الإنسان إلى الانحراف والفساد.
[1] محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، (قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2004م)، 3/176-182.
[2] إسماعيل بن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، ط2، (الرياض: دار طيبة للنشر والتوزيع، 1999م)، 8/67.