المقالات

تحقّق الذات عبر الخروج من قوقعتها

   

يعالج هذا المقال قضيةً من أخطر القضايا التي تخصّ هذا الجيل الشابّ الذي ورث إرثًا ثقيلًا بعد “ثورات الربيع العربي”، وهو إرث من الآلام والإحباطات والانتكاسات، ولّد في الجيل الذي عاصر تلك الثورات نزوعًا إلى القضايا “الفردانية” أو كما أحبّ تسميتها في هذا المقال: “القضايا المغرقة في الذاتية”. حيث غدتْ الذات وآمالها الخاصة محور اهتمام شريحة واسعة من الشباب، بعد انسداد آفاق التغيير – وإنْ مؤقّتًا – في المجال العام، إذ تغوّلت الأنظمة الاستبدادية إلى جانب تراكمات الفشل التي أنتجتْها مختلف الجهات المنخرطة في الحراك الثوري، وصنعتْ حالة من الانزواء في ضمير هذا الجيل.

لسنوات عديدة، عادت الكثير من القضايا الفردية والاجتماعية ذات البعد الفردي – كالنسوية وقضاياها – إلى واجهة النقاش العام، وعلى رأس تلك القضايا: الأسئلة الوجودية والبحث عن المعنى المشبِع للذات في خضمّ هذا العالم المتغيّر، وداخل قفص تلك الدول الفاشلة التي ما زال الشباب العربي يعيش فيها.

تلاشت أسئلة إصلاح السلطة والإصلاح الاقتصادي والعدل الاجتماعي لتحلّ مكانها أسئلة “تحقيق الذات” بمختلف منحنياتها؛ سواء أكانت تدور في أفق الإلحاد والإيمان، أو أفق الذكورة والأنوثة، أو أفق النجاح والإنجاز، أو أفق السعادة والجدوى، أو أفق الصحة النفسية، فجميع هذه الآفاق تطوف حول الفرد ومتطلّباته وتفاصيل حياته، ويتخلّل معظمَها سعيٌ محموم من الشباب لتسكين آلام ذواتهم، تلك الآلام التي أُحيلت إلى آفاق “فردية” أو “نفسية” وعلى الأكثر “اجتماعية”.

لكنّ هذه الجهود كلها ظلّت قاصرة، وقد آبَ الشباب أخيرا إلى حقيقة صارخة لم تكن قادرة على الاختفاء أكثر تحت ركام الفشل والإحباطات: وهي أنّ إصلاح الشأن العام مفتاحٌ أساسيٌّ لإصلاح الكثير من جوانب هذه الزوايا الفردانية. بكلمات أخرى: إنّ امتلاء الشباب برسالة الإصلاح السياسي والاجتماعي وانشغالهم في آفاقها هو خير دواء للكثير من تلك الأزمات الفردية التي عصفت بهم، بحيث يبدو تناول تلك الأزمات بمفردها مقطوعةَ الصلة عن الشأن العام والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه عالمنا العربي؛ قصورًا في الرؤية وضعفًا في التقويم.

سأحاول في هذه المساحة تسليط الضوء على هذه القضية من خلال زاويتين: زاوية تستلهم رواية “عندما بكى نيتشه” للكاتب الأمريكي إيرفين يالوم، وتحديدا الأزمة التي عصفت بشخصية الدكتور جوزيف بروير، وزاوية تتناول الآفاقَ الكبرى التي يرسمها القرآن للإنسان المسلم، ومدى دفعه إيّاه للانخراط في الشأن العام والسعي في إصلاحه.

لست بصدد حرقِ أحداث رواية بديعةٍ ثريةٍ كرواية “عندما بكى نيتشه” للكاتب والطبيب النفسي الشهير إيرفين يالوم، ولكن جانبًا كبيرا من أحداث الرواية قد تناوله يالوم من زاوية نظر جديرة باهتمامنا، وهي أثر وجود القضية والرسالة في حياة الإنسان على صحّته النفسية وعلى سعادته وشعوره بالجدوى.

يقدّم لنا يالوم الدكتور جوزيف بروير (وهو شخصية حقيقية لكنّ الرواية خيالية) باعتباره شخصية ناجحة إلى حدّ كبير، حقّقت بعض الكشوفات العلمية، وهو متزوج من امرأة جميلة ولديه أسرة وأطفال، إلى جانب ثرائه ووجاهته الاجتماعية. ولكنه رغم كل ذلك لم يكن راضيًا عن حياته، وكان يعاني من متاعب نفسية مرتبطة – في الظاهر – بشخصيةِ مريضةٍ نفسيةٍ كان يعالجها وتعلّق بها حدّ الهوَس (بيرثا)، ولكنها كما يبدو في الباطن وكما حاول يالوم إقناعنا كانت مرتبطة بمسارات أكثر عمقًا وجوهريّة في نفسه ونمط حياته وشعوره بذاته.

هكذا عبّر الدكتور بروير في الرواية عن معاناته النفسية على ضوء طبيعة حياته:

    “ماذا ينقصني؟ ألا أعيش حياةً رغدةً؟ من هو الشخص الذي أستطيع أن أشكو إليه بأنّ حياتي آخذة في الانحدار باستمرار؟ من يمكنه أن يفهم عذابي، لياليّ المؤرّقة، مغازلتي للانتحار؟ لكن ألا أملك كل ما يتمنّى أيّ شخص أن يملكه: المال، الأصدقاء، أسرة جميلة، زوجة فاتنة، الشهرة، الاحترام؟ من سيريحني؟ من لن يسأل ذلك السؤال الواضح: ماذا تريد أكثر من ذلك؟”[1].

والسؤال هنا تحديداً: ماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟ إنّ الإجابة تكمن في أنّ الإنسان مخلوق لغاية أعظم، ومن ثم فحين لا يحقّق هذه الغاية أو لا ينخرط في آفاقها فهو يعطّل مساحة مهمّة من طاقته النفسية والعقلية

والسؤال هنا تحديداً: ماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟

إنّ الإجابة تكمن في أنّ الإنسان مخلوق لغاية أعظم، ومن ثم فحين لا يحقّق هذه الغاية أو لا ينخرط في آفاقها فهو يعطّل مساحة مهمّة من طاقته النفسية والعقلية، وهذا التعطيل هو الذي يجلب التعاسة على أولئك الذين يبدو ظاهريّا أنّهم لا ينقصهم شيء في الحياة الدنيا!

وقد التقط الكثير من الغربيين هذه الحقيقة، حتى أولئك الأكثر إيغالًا في الإلحاد والسفسطة، أمثال الفيلسوف والأديب الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900)، الذي يوظّفه يالوم في روايته بذكاء، فيجعله في أحد السياقات الشخصَ الذي يلفت نظر بروير إلى هذه الحقيقة.

كان جوزيف بروير يُحيل ألمه إلى حبّه لتلك المريضة التي كان يعالجها، وإلى عدم قدرته على التخلّص من التعلّق بها والغيرة عليها، وإلى عدم رضاه عن زواجه واعتباره إيّاه “شِركًا” وقع فيه. هذه الأسباب وما يدور حولها هي بالنسبة إلى نيتشه “أفكار تافهة تتسلّل إلى عقله كالفطر”[2]، بيدَ أنّ نيتشه حمل إلى جانب هذه الرؤية أفكارًا سلبية حول النساء والشهوة والقوة ليس هذا مجال تفصيلها.

كان الشعور بالتعاسة واليأس أحد المحاور الرئيسية لحالة الدكتور بروير النفسية، وكان نيتشه – كما في الرواية – يحاول إفهامه أنّ حالة التعاسة واليأس التي يشعر بها لا تعود مباشرة إلى تلك “التوافه” أو “الدنيويات” الصغيرة التي يعانيها ويتحدث عنها وقد تضخّمت في حسّه.

هكذا صاغ يالوم على لسان نيتشه تشخيص الأخير لحالة جوزيف بروير، حين طلب نيتشه من بروير أن يخوض معه تجربة فكرية تتخلّل إغماض العينين، حينها شرع نيتشه في وصف حالة بروير قائلا:

    “لنجثم في مكان بعيد، ربما فوق قمّة جبل، ونراقب معًا. هناك، هناك، بعيدًا، نرى رجلًا، رجلًا ذا عقلٍ ذكي وعلى درجة كبيرة من الحساسية. لنراقبه معًا. ربما نظر ذات مرّة في أعماق رُعبِ وجودِه. لعلّه رأى الكثير! لعلّه صادف فكّي الزمن الملتهمين، أو ضآلته – بأنّه مجرّد ذرّة تافهة – أو أنّ الحياة زائلة وطارئة. كان خوفه فجًّا وفظيعًا حتى اليوم الذي اكتشف فيه أنّ الشهوة تُهدّئ من حدّة الخوف. لذلك أصبح يرحّب بالشهوة في عقله، والشهوة، المنافسة الهمجيّة، سرعان ما جرفتْ جميعَ أفكاره الأخرى. لكنّ الشهوة لا تفكّر. إنّها تشتهي. إنّها تتذكّر. لذلك بدأ هذا الرجل يتذكّر بشهوانية بيرثا، المقعدة. لم يعد ينظر بعيدًا، لكنّه أمضى وقته وهو يتذكّر معجزات مثل كيف تحرّك بيرثا أصابعها، فمَها، كيف تخلع ثيابها، كيف تتكلّم وتتلعثم، وكيف تَعْرُج وهي تمشي.

    وسرعان ما غمر كيانَه كلَّه شعورٌ بالضآلة. وامتلأتْ جادات عقله العظيمة التي عُبّدت من أجل الأفكار النبيلة بالنفايات، وبدأتْ ذاكرته التي امتلأت ذات يوم بأفكار عظيمة تخبو وكادت تتلاشى، وتضاءلتْ مخاوفه أيضًا، ولم يبق لديه سوى قلقٍ واحدٍ ينهشه بأنّ هناك خطأ ما. مشوّشًا، راح يبحث عن مصدر قلقه وسط نفايات عقله. وهكذا نجده اليوم يفتّش في القمامة كما لو أنّها تحتوي على الإجابة. حتى أنّه يطلب منّي أن أشاركه في ذلك”[3].

يعبّر هذا النصّ الرائع عن فكرة جوهرية مهمّة، وهي أنّه كثيرًا ما ينشغل الإنسان بمعاناته اللحظية ومظاهرها الواقعية، دون أن يلج إلى سببها أو الحالة التي أدّت إليها، فيجعل النتيجة التعيسة سببا، وهكذا يدور في دوامة صغيرة لا توصله إلى سبب ألمه. يحيلنا نيتشه في هذا النصّ الروائي البديع إلى أهمية أن ندرك غاية وجودنا باعتبارنا بشرًا لدينا من القدرات والطاقات ما يجعلنا أكبر من أن نأطر أنفسنا بالانشغالات والعلاقات الدنيوية فتكون أفقنا الأعلى. ولكنّ نيتشه لم يكن مؤمنًا برسالة إلهية فضلا عن أن تكون رسالة التوحيد، بل كانت لديه رؤية مضادّة للإيمان تطرّق إليها يالوم في الرواية ولسنا بصدد التفصيل حولها، ومن ثمّ فقد جعل ذلك الأفق الفكري الأعلى الذي كان يحثّ عليه بريوير أفقًا مليئا بتحدّي حقائق الإيمان مع الاعتقاد بالعلم بديلا عن العالم الغيبي الذي كان يراه مُسكّنًا مريحًا. كان يرى ضرورة الانخراط في ذلك الألم الأكبر المتمثّل في ترك الإيمان والبحث عن الحقيقة.

ولسنا في هذا المقال بصدد مناقشة نيتشه في رؤيته الموغلة في انعدام الثقة بالله والداعية إلى أن يعتمد الإنسان على نفسه ويتحرّر من الإيمان، لكنّا نشير إلى أنّه قد أدرك طرفًا من الحقيقة التي نعالجها في هذا المقال، وهي التعاسة والألم النفسي اللذان يملآن قلب الإنسان حين يغفل عن حقيقة وجوده في هذه الحياة، والتي عبّر عنها نيتشه بلغته التشاؤمية الحادّة بعباره “رُعبِ وجوده”! إنّ الأمر عنده “رُعب” لأنّه يرى الإنسان العاقل المتفتّح معزولا عن قصة الإيمان التي أخبرنا الله بها في كتبه وعلى ألسنة رسله، فحينئذٍ يبدو الوجود الإنسانيّ مرعبًا حقّا!

ولكنّ الذي نهدف إليه من هذا النموذج هو تسليط الضوء على أهمية أن يرتفع الإنسان بفكره فوق التفاصيل الفردية التي تحيط بذاته ولو للحظة، وينظر إلى المشهد من الأعلى قليلا، فلعلّ مطارق الألم التي تنبعث من تفاصيل الحياة الصغيرة وتخبط على قلبه وعقله وروحه مدفوعة في الحقيقة من سبب أعلى؛ سببٍ يعود إلى منطقة معطّلة لم يسبح فيها عقلُه المهيّأ لما هو أرفع من مجرّد الحياة في آفاق الشهوة وتلبيتها.

لقد عبّر يالوم عن ذلك على لسان نيتشه أيضًا بهذا الحوار السامي:

“ألا ترى يا جوزيف بأنّ المشكلة ليست أنّك تشعر بضيق؟ ما أهمية التوتّر أو الضغط في صدرك؟ من الذي وعدك بالراحة؟ إذًا أنت لا تنام جيّدًا. من الذي وعدك بنوم هانئ؟ لا، ليست المشكلة هي الشعور بالضيق. إنّ المشكلة هي أن تشعر بالضيق من أجل الشيء الخاطئ[4].

وبصرف النَّظر عن إغفال نيتشه للخطاب النفسي القريب المؤثّر في النفس، و”الجفاف العاطفي” الذي كان يتخلّل خطابه، فقد أشار بهذه العبارة إلى أنّ الألم النفسي في الحياة أمرٌ لا مفرّ منه. إذا كنت إنسانًا فأنت لا بد متألّم، ولكنّ طبيعة هذا الألم ومداه وآفاقه تختلف بين إنسان يدرك أنّه يكابد ويعاني من أجل غاية عليا مرتبطة بوجوده الإنساني في هذه الأرض، وبين إنسان لا يدرك سبب ألمه، ويحيله بالخطأ إلى تفاصيل دنيوية أو مشاكل فردية مما يواجهه في الحياة.

ولا شكّ أن الكثير من آلام النفس يعود إلى مشاكل نفسية واجتماعية وغيرها، وكثيرا ما يؤدي عدم تلبية مطالب النفس الفطرية – وبضمنها المطالب الشهوانية – إلى آلام نفسية وتعاسة في الحياة، ولكنّ تحميل المشاكل الفردية والاجتماعية التي تحيط بالفرد كل آلامه النفسية وإغفال خلوّ حياته من “القضية” و”الرسالة” العليا التي يسعى من أجل تحقيقها خلال رحلة حياته القصيرة؛ هو في الواقع قصورٌ في تشخيص ألم الإنسان، وغفلة قاتلة عن الدواء الشافي لأكبر آلامه.

يُوسّع القرآن آفاق المتلقّي لخطابه في عدد كبير من سوره وآياته، إذ قلّما تقرأ شيئا يخاطب الإنسان إلا ووجدتَ القرآن يربط المخاطَب فيه بالغاية من خلْق الإنسان وبرسالته في هذه الحياة. وهذا التكرار متعدّد الصور وزوايا المعالجة الذي في كتاب الله هو أحد أنهار الشفاء التي تغتسل بها النفس من آلامها الخفية التي لا تعلم لها سببا.

أنت لا تحتاج إلى أكثر من أن تفتح مصحفك في الموضع الذي بلغته لترى هذا الإشراق القرآني وهو يعالجك عبر دفعك إلى التخفف من التقوقع حول ذاتك ومتطلّباتها العضوية المحضة.

أنت لا تحتاج إلى أكثر من أن تفتح مصحفك في الموضع الذي بلغته لترى هذا الإشراق القرآني وهو يعالجك عبر دفعك إلى التخفف من التقوقع حول ذاتك ومتطلّباتها العضوية المحضة. هل قرأت سورة العصر؟ إنّها تخبرك بوضوح أنّ حياة الإنسان خاسرة ناقصة إلّا لو حَمل قضية الإيمان بكامل شحنتها وفاعليّتها يقينًا وسلوكًا، وإلّا لو حَمل معها قضية الحقّ دعوةً وتواصيًا.

{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1-3).

أنت لا تخسر الآخرة فحسب حين تغفل عن هذه القضية الكبرى الجديرة بالإنسان، بل ستخسر الدنيا أيضًا، ومن أبرز ألوان الخسارة تلك الخسارة النفسية المتمثّلة بالتعاسة والألم. التعاسة الناشئة عن انخراط الإنسان في معالجة مادة الدنيا باعتبارها “أهدافًا” و”غايات”، لا باعتبارها “وسيلةً” و”مسرحًا” لرسالته العظمى؛ قضية إقامة الحقّ والعدل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25).

إنّ آفاق الانشغال بالإصلاح باديةٌ في الآيات السابقة لمن فقه، فالتواصي بالحقّ والصبر يحدث مع مكوّنات الأمة الأخرى وهو نوع من الإصلاح، وقيام الناس بالقسط هو غاية الرسالة التي أرسل بها الله سبحانه رُسلَه، وهذه الأمة هي وريثة هؤلاء الرسل الكرام عليهم السلام، وعلى رأسهم خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلّم، وقد قال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104)، فلا فلاح حين تتنكّب الأمّة هذا الطريق الإصلاحي الواضح. ولا يبطل هذا حين يقال إنّ “مِنكم” هنا للتبعيض، فالآية الأخرى وآيات كثيرة غيرها توضّح أنّ هذا الأفق الإصلاحي العام مطلوب من عموم الأمة، ومَن لا يقدر عليه بعذر فله عذره عند الله، لكنّ الحديث هو عمّن يستطيع ممارسة شيء يصبّ في الإصلاح العام ولكنّه ينزوي عنه وينشغل في آفاقه الفردانية.

قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110). وقال عزّ وجلّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). فليس باستطاعتكم الانزواء كليّا على آلامكم الشخصية الفردية، ولا الانكفاء على ذواتكم ترجون من خلال ذلك علاجًا. بل سيظلّ الألم يولد في نفوسكم جرّاء التقصير في الشهادة على الأمم، فكيف بمن يقصّر في الشهادة على أمّته ولا يتألّم للحال الذي وصلت إليه والحاجة إلى إصلاح أحوالها العامة؟!

إنّ الذات المسلمة حين ترجو أن تحقّق نفسها وحين تسعى إلى الأمن والطمأنينة لا يمكنها ذلك من غير القيام برسالة الإسلام بكامل شحنتها الأساسية، فهي ليست رسالة للتعبّد الطقوسي أو للتأمّل الفردي، بل هي رسالة شاملة تستلزم الأخذ بنسيجها الكامل واعتناقه كي يتحقّق الأمن لهذه الأمة. قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55). إنّ آفاق هذه الآية جليّة في مدى إيضاحها للارتباط الوثيق بين إصلاح الشأن العام وحصول الأمن لعموم الأمة، فلا أمن ولا أمان إلا بتمكين الصالحين والانقياد لشرائع هذا الدين وقيمه وتوجيهاته السامية.

لقد أنزل الله القرآنَ شفاءً عامًّا لما في الصدور: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57)، ولا يتحقّق شفاء الصدور من غير تناول الدواء بجرعته الكاملة. وهذا الدواء لا يتضمّن وصايا فردية أو تعبّدات وأدعية فحسب، بل تضمّن إلى جانب ذلك قيمًا عامّة لإقامة الحقّ والعدل، ودعوة للصلاح والإصلاح، وتوصيات لوقاية المجتمع والأمة من الآفات المُفسدة، ومن ثمّ كان الشفاء القرآني مرتبطًا بجميع ذلك لا محالة. وسيظلّ الإنسان المسلم متألّمًا ما دام متقوقعًا حول ذاته ولم ينخرط في آفاق رسالة الإسلام الإصلاحية السامية بما يتناسب مع قدراته وطاقاته.

سيظلّ الإنسان المسلم متألّمًا ما دام متقوقعًا حول ذاته ولم ينخرط في آفاق رسالة الإسلام الإصلاحية السامية بما يتناسب مع قدراته وطاقاته.

إنّ الخلوّ من الانخراط في هذه الغاية العظمى يجعل حياة الإنسان الذاتية محورًا مؤلمًا للتفكير. إنّها حينئذٍ حياة بلا غاية سامية ولا هدف متجاوز للذات، تلك الذات الفانية الآيلة للسقوط والموت. هكذا عبّر بريوير في رواية “عندما بكى نيتشه” عن الذات الخالية من تلك الغاية العظمى والعالقة في التفكير بمسارها المحتّم في الحياة:

    “إنّ بلوغي الأربعين حطّم الفكرة بأنّ جميع الأمور ممكنة بالنسبة لي. فجأة فهمت أشدّ حقائق الحياة وضوحًا: أنّه لا يمكن إعادة ذلك الزمن إلى الوراء، بأنّ حياتي بدأت تنفد. بالطبع، كنت أعرف ذلك من قبل، لكن معرفته في الأربعين كان نوعًا مختلفًا من المعرفة. الآن أصبحت أعرف أن فتى الوعد اللانهائي كان مجرّد راية متنقّلة، أنّ ذلك “الوعد” وهم، وأنّ “اللانهائي” لا معنى له، وأنّني أسير خطوة خطوة مع جميع الرجال الآخرين السائرين نحو الموت”[5].

وهكذا قرأ نيتشه – في الرواية – سرّ إخفاق “فتى الوعد اللانهائي” كما كتب في دفتر ملاحظاته:

    “من الغريب أنّه يمتلك هذا المفهوم منذ سنّ مبكّر، لكنّه لم يطوّر رؤيته. فقد كان “فتى الوعد اللانهائي”، كما هو حالنا جميعًا، لكنّه لم يفهم قطّ طبيعة وعده. لم يفهم قطّ أنّ واجبه هو أن يجعل الطبيعة مثالية، أن يتغلّب على نفسه، على ثقافته، على عائلته، على شهوته، على طبيعته الحيوانية الوحشية، أن يصبح مَن هو، ماذا كان. لم يتطوّر قط. لم ينسلخ عن جلده الأول قط. ظنّ خاطئًا أنّ الوعد هو أن يحقّق أهدافًا ماديّة ومهنية. وعندما حقّق هذه الأهداف دون أن يُسكت الصوت الذي كان يقول “كن أنت نفسك”، دخل في حالة يأس. حتى الآن لم يفهم الأمر”[6].

وإذا كان نيتشه يمتلك هذه الأهداف الغريبة الموحشة القاسية برؤيته القاصرة ونفسيّته غير السويّة، فإنّ القرآن يقدّم لنا الصورة كاملة، يقدّم لنا قصة الإنسان كاملة:

{هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 1-3). إنّها قصّة “الابتلاء” التي تفتح آفاق الرسالة الجديرة بقدرات الإنسان وطاقاته. ويقول لنا سبحانه في أواخر السورة عن السورة بأسرها: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا} (الإنسان: 29).

وسبيل الله تعالى في كتابه واضح صريح، إنّه سبيل الإيمان به والعمل بالرسالة التي أنزلها على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ومن ضمن هذه الرسالة الدعوة إلى طريق الله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108).

إنّه لا سبيل غير هذا السبيل. ومن ثم فلا سبيل لهذه الأمة كي تنعتق من آلامها ومآسيها إلا أن تسلك هذا السبيل الدعوي الإصلاحي كما فعل أسلافها من الصحابة والتابعين وتابعيهم بحقّ إلى يوم الدين. وإنّ أثر هذا الانعتاق الجمعي في مداواة آلام الذات وإنارة سراديبها الصغيرة المعتمة لأثر فاعل كبير؛ فكثير من هذه الآلام يُعالَج ويذوب أو تخفّ وطأته حين تتفتّح الشخصية للهموم الإصلاحية الكبرى وتنخرط في أشرف قضية في الوجود، وكثيرٌ منها هو في الواقع “احتباس” ينتظر الانطلاق ليُفرَج عنه، فتتحقّق الذات وتستقيم وتستوي حين تخرج من قوقعتها.


[1] إرفين، د. يالوم، عندما بكى نيتشه، ترجمة: خالد الجبيلي (بيروت: منشورات الجمل، 2015)، 74.

[2] ن.م.، 244.

[3] ن.م.، 261.

[4] ن.م.، 262.

[5] ن.م.، 275.

[6] ن.م.، 278.

أ. شريف محمد جابر

كاتب ومترجم وباحث ولد في عكا شمال فلسطين، حصل على إجازة في الأدب واللغة العربية إلى جانب إجازة في التعليم والتدريس والإرشاد من جامعة حيفا، ثم حصل على الماجستير في الأدب العربي من الجامعة نفسها، وكانت أطروحته بعنوان "تفسير القرآن عند الحكيم الترمذي" (2021). له من الكتب: "الهوية والشرعية" (2011)، و"الخطاب المريض" (2015)، و"مفاتيح لفهم السنّة" (2018/2020)، و"الذرّة التائهة" (2021)، و"رسائل إلى سلمى" (2021)، و"العقائدية القاصرة" (2023)، و"منطق القرآن" (2023)، "ولماذا هجرنا القرآن في بناء أصول الإيمان؟" (2024). إلى جانب عدد كبير من الدراسات والمقالات المنشورة في مختلف المواقع على الشبكة

أ. شريف محمد جابر

كاتب ومترجم وباحث ولد في عكا شمال فلسطين، حصل على إجازة في الأدب واللغة العربية… المزيد »

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى