بين الأصالة والزيف
بعد مونديال ٢٠٢٢ ضجت مواقع التواصل احتفاءاً بالانتصار الكبير للقوة الناعمة، فمجد العوام الحدث، وحلل الخواص أبعاده الفلسفية و الماورائية، وصحيحٌ أنه تم افتتاح العديد من محلات الخمور استعداداً للحدث وتأميناً لرغبة الزوار- ولا نعلم إن أغلقت بعده أم لا- ولكن في مقابل ذلك استطاع آلاف الأشخاص أن يتعرفوا بشكل شخصيٍ على الشطافة:)
نعم أبالغ في هذا التوصيف، ومشكورةٌ تلك الجهود الدعوية التي رافقت أحداث المونديال، ولكن لا يصح إخراج الحدث عن سياقه، وتحميله ما لا يستطيع حمله من معاني النصر والعزة، بينما هو لا يعدو كونه نشاطاً رياضياً واقتصادياً يهدف لجذب السياح والمستثمرين بالمرتبة الأولى، ثم إنه لا يصح أن نكيل بمكيالين إذا سارت دولةٌ اخرى- نعرفها جميعًا- على نفس الدرب ويصبح ما كان نصراً حضارياً للاولى تفاهةً وخسةً للثانية، ( تاغ لجماعة الرأي الآخر) وأنا والله في الحالتين كما قال ذلك الشاعر الذي شاب مفرقه في الغربة:
ما لي (بأطمةَ) لا شاةٌ ولا جملُ
نعم، لقد شاهدت عدة مقاطع لأوروبيين يتحدثون بدهشةٍ عن عظمة الأمر-أعني الشطافة- وحسن هذا الاختراع، وكيف أضاف لعملية قضاء الحاجة معنى جديداً ومتعةً أخرى، وبعد هذه المقدمة المقرفة:) صار بإمكاني أن أدلف إلى جوهر الموضوع (أرجو أن تكون قد انتبهت لفصاحتي وأنا أستعمل كلمة أدلف).
لا أدري ما هو السبب الذي يجعلنا زاهدين في دراسة التاريخ الأوروبي، وأحياناً أندهش لأنه لا يأخذ حقه في الكتب والمناهج المدرسية، ربما كان تجاهله جزءاً من نتائج الاستعمار الذي مرت به بلداننا، وعلى كل حال، لا أخفيك أنني أشعر بسرورٍ خفي عندما أسمع أخباراً عن العصور المظلمة التي قبعت فيها أوروبا، وعن البلاوي التي كانت هناك.
وفي خضم هذه الأحداث، والحرب الدائرة على إخواننا في غزة، والعري الأخلاقي الذي فضح ازدواجية معاييرهم، وكشف زيف ما يدعونه من سعيٍ للعدالة والحرية، وما بين مونديال قطر وأحداث اليوم يروق لي أن أسوق شيئاً من تاريخهم في النظافة، أو لأكون أدق في الوساخة، لتعلم أنهم لا ينظِّرون علينا في قيم الحرية والعدالة وحسب، بل إن ما يدعونه من إتيكيتٍ ورُقيٍّ هو أيضًا لا يخلو من تنظير، وحتى نتذكر جيداً من أجدادنا ومن أجدادهم ومن نحن ومن هم في معايير الرقي والإنسانية.
ففي العصور الوسطى كانت المدن العظمى في أوروبا ومن بينها باريس لا تعدو كونها مكباً ضخماً للنفايات، بل إنه لم يكن هناك حماماتٌ عامة وكان الناس يقضون حاجتهم في الطرقات ويرمون النفايات فيها، وهذا ليس منذ زمنٍ بعيدٍ كثيرًا، نتكلم هنا عن القرنين السادس عشر والسابع عشر حيث كان الأطباء هناك يحذرون من مساوئ الاستحمام وخطورته… ويعتبرونه سبباً من أسباب المرض ويكتفون بالمسح بالمناديل والعطور!
وفي كتاب اعترافات برجوازي التي روى فيها ماراي مذكراته تحدث عن تعامل الأوربيين مع ملف النظافة حيث يقول: إن الأوروبيين كانوا يعتبرون الاستحمام كفراً،وإن الحمامات وأماكن الاغتسال في قصور وإقامات الأغنياء كانت مجرد ديكور وأنهم كانوا يغتسلون خلال الأعياد فقط، ويذكر أن بعض ملوكهم لم يستحم طيلة حياته سوى مرة أو مرتين
وعندما ذكر ابن فضلان الروس في رحلته قال : “وهم أقذر خلق الله، لا يستنجو من بول ولا غائط، ولا يغتسلون من جنابة ولا يغسلون أيديهم من الطعام، ولا بد لهم في كل يوم من غسل وجوههم ورؤوسهم بأقذر ماء يكون وأطْفسِه، وذلك أن الجارية توافي كل يومٍ بالغداة سيدها ومعها قصعةٌ كبيرةٌ فيها ماءٌ فتدفعها إلى مولاها فيغسل يديه ووجهه وشعره ثم يتمخط ويبصق فيها ولا يدع شيئا من القئر إلا فعله في ذلك الماء، فإذا فرغ ممما يحتاج إليه حملت الجارية القصعة إلى الذي جانبه ففعل مثل فعل صاحبه، ولا تزال ترفعها من واحد إلى واحد حتى تديرها على جميع من في البيت.”
ولو تتبعت التاريخ لوجدت الفظائع، ولوقفت على الكثير من القصص التي لا تحب أن تسمعها، وعلى الرغم من أنني أبدو الآن كمنهزمٍ يبحث عن أي نصرٍ يرضي به نفسه أمام تأخره الحضاري، إلا أننأ نعرف جميعاً أن الأمر كذلك حقاً، وأننا كما نفوقهم بهذه الطهارة المادية، فإننا نعلوهم كذلك بالطهارة المعنوية، فأنسابنا صافية، وأعراضنا نظيفة، والإرث الأخلاقي الذي ما زلنا نراعي حرمته يشهد لنا بذلك، ومن يساوره الشك في المسألة فليرجع وليتأمل صور الأسرى الإسرائيلين الذين أطلقتهم حماس.
ولذلك أقول : عندما ترى الرجل الأبيض يفتح فمه ليحدثك عن الأخلاق، أو يحاضرنا نحن المسلمين في الرقي والتقدم، وينعتنا ليل نهار بالجهل والتخلف، أو يحدثك عن النظافة واللباقة وإتيكيت التعايش، أو يملي عليك الطريقة الصحيحة للتعامل مع ملف المرأة، أو ينظر إليك نظرة استعلاء ويطلب منك المستحيل حتى يعطيك تأشيرة السفر إلى بلادهم ، فقل له: الله لا يرحم جدك… كان… :